الاثنين، 31 ديسمبر 2012

خلدونيات لغوية: منابع الفصحى

اشتهر ابن خلدون بأنه مؤسس علم الاجتماع، حيث تحدث في مقدمته الشهيرة عن العديد من الأمور التي تتصل بقيام الدول والعمران البشري وصعود الحضارات واندثارها. وقد اهتم الباحثون وما زالوا بما كتبه ابن خلدون عن التاريخ والسياسة والاقتصاد والعلوم وغير ذلك من المواضيع التي احتوت عليها المقدمة، إلا أن موضوع اللغة وآراء ابن خلدون فيها لم يحظ بالاهتمام الكافي كما حظيت المواضيع الأخرى. ولذا فسوف نتحدث عن آراء ابن خلدون اللغوية في سلسلة مقالات محاولين شرحها وتقييمها ومعرفة كيفية الاستفادة منها في عصرنا الحالي. 
____________________________________________________________________

 تعد قدرة الأطفال على اكتساب اللغة من محيطهم دونما تلقين يذكر من أجل النعم التي أنعم الله بها على الإنسان، فمحيط الطفل داخل المنزل وخارجه هو المنبع الذي تفيض منه اللغة عليه فيكتسبها دون الحاجة إلى تعليم أو شرح أو أي شيء من قبيل ما يحتاجه الكبار حين يتعلمون لغة أجنبية.

وقد وصف ابن خلدون عملية الاكتساب تلك في فصل من مقدمته عنونه ب" في أن اللغة ملكة صناعية"، ذكر فيه أن "الملكات لا تحصل إلا بتكرار الأفعال، لأن الفعل يقع أولا وتعود منه للذات صفة، ثم يتكرر، فيكون حالا. ومعنى الحال أنها صفة غير راسخة. ثم يزيد التكرار، فيكون ملكة، أي صفة راسخة. فالمتكلم من العرب حين كانت ملكة اللغة العربية موجودة فيهم يسمع كلام أهل جيله وأساليبهم في مخاطباتهم وكيفية تعبيرهم عن مقاصدهم كما يسمع الصبي استعمال المفردات في معانيها فيلقنها أولا. ثم يسمع التراكيب بعدها، فيلقنها كذلك. ثم لا يزال سماعهم لذلك يتجدد في كل لحظة ومن كل متكلم، واستعماله يتكرر، إلى أن يصير ذلك ملكة وصفة راسخة، ويكون كأحدهم".

وواضح من كلام ابن خلدون أنه يصف العصور الأولى التي سبقت استشراء اللحن في اللغة، والذي أدى إلى انقسام اللغة العربية إلى قسمين رئيسيين أولهما الفصحى وثانيهما اللهجات الدراجة التي أصبحت هي لغة المحيط التي يكتسبها الطفل اكتسابا طبيعيا ويربى عليها.

ولأن الفصحى قد ابتعدت عن البيت والشارع واختصت بمجالات محددة كالتعليم وكتابة الوثائق الرسمية والكتب والرسائل العلمية فقد صار من اللازم إيجاد طرائق لإتقانها رغم قلة استخدامها في المحيط العام وابتعداها عن أغلب ما هو رسمي.

ولقد أكد ابن خلدون في مقدمته أن الطريقة الأنجع للتمكن من الفصحى هي مخالطتها، لكن السؤال الذي يطرح نفسه هنا هو:

ما هي منابع الفصحى التي ينبغي النهل منها لإتقانها؟

أجاب ابن خلدون عن هذا السؤال في أكثر من موضع في مقدمته، حيث أشار إلى منابع نسميها في هذا المقال بالعامة، وأخرى نسميها بالخاصة، وسنتناولهما في نقطتين، وهما كالتالي:

أولا، تحدث ابن خلدون عن منابع عامة للغة، الهدف من النهل منها هو إتقان الفصحى عامة بحيث لا تكون اللهجات العامية مسيطرة على ألسنتنا، وبحيث نستطيع التحدث بالفصحى بنفس الطلاقة التي نتحدث بها اللهجة التي ربينا عليها.

ولقد رأى ابن خلدون أن على من أراد أن يكتسب سليقة الفصحى ويتحدث بها كالعرب الأوائل أن " يأخذ نفسه بحفظ كلامهم القديم الجاري على أساليبهم من القرآن والحديث، وكلام السلف، ومخاطبات فحول العرب في أسجاعهم وأشعارهم، وكلمات المولدين أيضا في سائر فنونهم حتى يتنزل لكثرة حفظه لكلامهم من المنظوم والمنثور منزلة من نشأ بينهم ولقن العبارة عن المقاصد منهم".

والشاهد في هذا الكلام أن من الأهمية بمكان ألا يقتصر مخالط الفصحى على منبع واحد أو منبعين من منابعهما، إذ ينبغي أن ينهل من مختلف المنابع حتى تصبح الفصحى طيعة في متناوله يستخدمها بسهولة ويسر ليعبر بها عن مقاصده.

وقد أشار ابن خلدون إلى أهمية النهل من منابع متنوعة للفصحى في موضع آخر من المقدمة، وذلك في الفصل الذي عقده بعنوان " في تعليم الولدان واختلاف مذاهب الأمصار الإسلامية في طرقه"، والذي استعرض فيه طرق التعليم ومواده في كل من الأندلس والمغرب وإفريقية، ولاحظ أن الطلاب في المغرب وبدرجة أقل في إفريقية لا يتمكنون من الفصحى في الأغلب لأن المعلميمن يركزون على القرآن ويهملون باقي منابع اللغة الأخرى، والقرآن "لا ينشأ عنه في الغالب ملكة لما أن البشر مصروفون عن الإتيان بمثله. فهم مصروفون كذلك عن الاستعمال على أساليبه، فلا تحصل لصاحبه ملكة في اللسان العربي. وحظه الجمود في العبارات، وقلة التصرف في الكلام".

أما أهل الأندلس فلم يكونوا يقتصرون على القرآن بل كانوا "يخلطون في تعليمهم للولدان رواية الشعر في الغالب، والترسيل"، ولذلك كانوا أقدر على إتقان الفصحى من أهل المغرب وإفريقية، مما يدل على أهمية نهل طالب الفصحى من عامة منابعها ومن مختلف مصادر كلام العرب إلى أن "يرتسم في خياله المنوال الذي نسجوا عليه تراكيبهم، فينسج هو عليه، ويتنزل بذلك منزلة من نشأ معهم وخالط عباراتهم في كلامهم حتى حصلت له الملكة المستقرة في العبارة عن المقاصد على نحو كلامهم".

ثانيا، أشار ابن خلدون في مقدمته إلى أن إتقان الفصحى بنفس درجة إتقان العامية لا يكفي لاستخدامها، أي الفصحى، للحديث عن أي شيء، وذلك لأن "لكل فن من الكلام أساليب تختص به وتوجد فيه على أنحاء مختلفة".

وعلى سبيل المثال فقد لاحظ ابن خلدون أن نظم الشعر"لا تكفي فيه ملكة الكلام العربي على الإطلاق، بل يحتاج بخصوصه إلى تلطف ومحاولة في رعاية الأساليب التي اختصته العرب بها وباستعمالها فيه". ولذلك فقد رأى أنه من الضروري لمن أراد أن يصبح شاعرا أن يخالط الشعر ويحفظ الكثير منه حتى يستوعب أساليبه التي تختلف عن أساليب فنون الكلام الأخرى ويكون ملكة خاصة بفصحى الشعر.

ولقد عرف ابن خلدون الأسلوب على أنه " المنوال الذي تنسج فيه التراكيب، أو القالب الذي ترص فيه"، وبين، كما ورد أعلاه، أن إتقان الفصحى يختلف عن معرفة الأسلوب الذي يختص به مجال ما، فقد يكون أحدهم ضليعا بالفصحى المستعملة في علم ما وقاصرا في الفصحى السائدة في علم آخر. ولقد ضرب ابن خلدون مثلا على ذلك بنفسه، حيث قال:

" ذاكرت يوما صاحبنا أبا عبد الله بن الخطيب، وزير الملوك بالأندلس، وكان الصدر المقدم في الشعر و الكتابة، فقلت له: أجد استصعابا علي في نظم الشعر متى رمته، مع بصري به وحفظي للجيد من الكلام من القرآن والحديث وفنون من كلام العرب، وإن كان محفوظي قليلا. و إنما أتيت، والله أعلم، من قبل ما حصل في حفظي من الأشعار العلمية والقوانين التأليفية، فإني حفظت قصيدتي الشاطبي الكبرى والصغرى في القراءات في الرسم واستظهرتهما، وتدارست كتابي ابن الحاجب في الفقه والأصول وجمل الخونجى في المنطق، وكثيرا من قوانين التعليم في المجالس، فامتلأ محفوظي من ذلك و خدش وجه الملكة التي استعددت لها بالمحفوظ الجيد من القرآن و الحديث و كلام العرب، فعاق القريحة عن بلوغها. فنظر إلي ساعة معجبا، ثم قال: لله أنت، هل يقول هذا إلا مثلك؟".

ولم يكتف ابن خلدون بالحديث عن نفسه مثالا لمن يتقنون الفصحى عامة ولا يجيدون استخدام سوى بعض أساليبها، حيث أعطى مثالا آخرا محددا عن الاختلاف بين أسلوب الشعراء وأسلوب الفقهاء، فقال:

"أخبرني صاحبنا الفاضل أبو القاسم بن رضوان، كاتب العلامة بالدولة المرينية، قال: ذاكرت يوما صاحبنا أبا العباس بن شعيب، كاتب السلطان أبي الحسن، وكان المقدم في البصر باللسان لعهده، فأنشدته مطلع قصيدة ابن النحوي، ولم أنسبها له، وهو هذا:

لم أدر حين وقفت بالأطلال            ما الفرق بين جديدها و البال

فقال لي على البديه: هذا شعر فقيه، فقلت له: ومن أين لك ذلك؟ قال: من قوله ما الفرق، إذ هي من عبارات الفقهاء وليست من أساليب كلام العرب، فقلت له: لله أبوك، إنه ابن النحوي".


يتبين لنا إذن أن هناك منابع خاصة لإتقان الفصحى المستخدمة في مجال معين من مجالات الحياة المختلفة، وأن مخالطة الكلام المستخدم في مجال ما هو ما يمكن المخالط من استيعاب الأسلوب المطرد فيه، وأنه هناك فرقا بين الفصحى العامة والتي هي عكس اللهجات الدارجة، وبين أنماط مختلفة من الفصحى تتمايز فيما بينها باختلاف أساليبها.


تطبيقات

بعد أن تحدثنا عن منابع الفصحى وصنفناها بناءً على كلام ابن خلدون، سنحاول فيما يلي أن نأتي على ذكر شيء من الشواهد والفوائد التي يمكن استقائها مما ورد أعلاه، قاصرين الحديث على نقطتين، وهما كما يلي:


أولا، إذا نظرنا في النقطة الأولى التي أوردنا فيها كلام ابن خلدون عن أهمية مخالطة نصوص متنوعة من الفصحى فسنجد أن النهل من منابع الفصحى المتعددة يعد بالفعل أمرا حيويا لكل من رام امتلاك ناصيتها، لأن الاقتصار على منبع أو منبعين فقط يحد من قدرتنا على اكتساب مفردات وتعابير جديدة وعلى ترسيخ قدرتنا على الالتزام بحركات الإعراب عند الحديث.

لكن السؤال الذي يطرح نفسه هنا هو: هل ثمة منابع أهم من الأخرى؟

الحقيقة أن الإجابة عن هذا السؤال تتطلب التذكير بأن الهدف الرئيسي من مخالطة الفصحى هو التخلص من تأثير العامية على اللسان، وهو ما يدفعنا إلى إعادة صياغة السؤال كالتالي:

ما هي نصوص الفصحى الأقدر على تخليص مخالطها من تأثير العامية؟


من الصعب بالطبع الإجابة على هذا السؤال دون دراسة ميدانية مفصلة، لكننا يمكن أن نقول أن مدارسة القرآن والحديث والنصوص المرتبطة بهما تجعلنا أقرب إلى استخدام حركات الإعراب استخداما صحيحا، لأن قدسيتها تجعلنا حريصين على نطقها نطقا صحيحا كما وردت ودون أي خطأ وإن كان غير مقصود.

لكن إتقان الفصحى لا يقتصر على الإعراب فقط، بل يتعداه إلى العلم بمفرداتها ومعانيها وتراكيبها وأسالبيها وما إلى ذلك مما يخرج عن نطاق علم النحو والذي هو جزء من علوم العربية. ولذلك فإن على من رام الفصحى أن ينهل من منابعها المختلفة حتى يتقنها من كافة جوانبها، فحتى وإن كان أحدهم متقنا للفصحى من ناحية النطق بها دون لحن، فإن قدرته على وصف مباراة كرة قدم مثلا مرتبطة بمدى معرفته بالمفردات والمصطلحات وربما الأساليب المستخدمة في ذلك المجال.

وعليه فإن قال قائل أن نصوص القرآن والسنة وما يتعلق بهما ليست كافية لتقويم اللسان، فإننا نقول أن هذا صحيح، لكننا نقول أيضا أن دارس العلوم الشرعية الجاد بطبيعة تخصصه لا يقتصر عليها، بل يلزمه مخالطة العديد من متون العلوم الأخرى، فتضعه مخالطته نصوص القرآن والسنة على أول طريق اللسان الفصيح، فتكون بمثابة الأساس، وتزيد مخالطة النصوص الأخرى من قدرته على استخدام الفصحى بطلاقة ودون لحن، فتكون بمثابة المرسخ. ولربما كان هذا أحد أهم أسباب قدرة علماء الدين على الحديث بعربية تقل فيها لدرجة كبيرة الأخطاء في الإعراب وحركاته، خصوصا إذا ما قارناهم بغيرهم.

وبناءً على ذلك يمكننا أن نقول أن إتقان الفصحى يستلزم أولا تقويم اعوجاج اللسان وتخليصه من تأثير العامية من الناحية الإعرابية، وهو ما يتأتى بمخالطة نصوص الكتاب والسنة وما يرتبط بهما مما له طابع قدسي، ويتبع ذلك مخالطة أنماط الفصحى الأخرى من نثر وشعر للتمكن من جوانب الفصحى الأخرى واستكمال تقويم اللسان.

ثانيا، بالنسبة للنقطة الثانية التي أشار فيها ابن خلدون إلى أن كل فن من فنون الكلام له أساليب معينة فإن نظرة خاطفة على استخدام اللغة في مجالات مختلفة تثبت لنا أن هذا الكلام صحيح، إذ أن لكل مجال قوالب لغوية محددة تشيع فيه وتميزه عن غيره. وإذا نظرنا إلى لغة الإعلام مثلا فإننا نجد أن بها عبارات شائعة من قبيل:

١- صرح مصدر مسؤول بوزارة الداخلية...
٢- أفادت التقارير الواردة من...
٣- وفي خبر عاجل وردنا للتو...

ولا تقتصر تلك القوالب الجاهزة على مفردات أو عبارات محددة فقط، بل قد تدخل أيضا في اختيار الأزمنة، فنجد مثلا أن عنوان الخبر قد يكون في المضارع، بينما الخبر نفسه في الماضي.

مثال
العنوان: الرئيس يطيح بمستشاريه
نص الخبر: أفادت وكالة الأنباء ال... بأن الرئيس ال... أصدر قرارا بإعفاء كل من...


ولا يعني اختصاص كل مجال بأنماط معينة من اللغة أنه لا مشترك بينها، فاللغة في نهاية المطاف واحدة، وتفرد مجال ما بقوالب معينة لا يعني أن كل اللغة المستخدمة فيه مختلفة عما هو مستخدم في مجالات أخرى، لأن تلك القوالب جزء مما هو شائع في ذلك المجال وليست كله.

ومن نافلة القول أن اكتساب ملكة الكتابة أو الحديث بالفصحى عن مجال بعينه عملية يسبقها اكتساب "ملكة الكلام العربي على الإطلاق"، أي إتقان الفصحى عامة، إذ هي بمثابة الأساس الذي يجب أن يوجد حتى تصبح عملية اكتساب أسلوب متخصص يسيرة.

ومما يلحظه قارئ كتب التراث أن اللغة المستخدمة فيها، بغض النظر عن مواضيعها، مختلفة بعض الشيء عن فصحانا المعاصرة، والاختلاف ليس في اللغة بقدر ما هو في الأساليب، ولربما يعود ذلك إلى اختلاف نمط حياتنا عن نمط حياة من سبقنا، ولكن أيا كانت الأسباب فإن من المهم أن نشجع النشئ وحتى الكبار على مخالطة كتب التراث وعدم الاقتصار على ما يكتب بالفصحى المعاصرة فقط، لأن ذلك من شأنه أن يجعل الأساليب القديمة بمفرداتها وتراكيبها مألوفة لدينا ليسهل بذلك اتصالنا بماضينا ولكي لا تكون كتب التراث مثلا للعربية المقعرة التي يتخذها البعض مادة للتندر.


خاتمة

تكلمنا في مقال سابق عن أن مخالطة الفصحى هي السبيل الأمثل لإتقانها، وحاولنا في هذا المقال أن نبين المنابع التي ينبغي النهل منها لتحقيق تلك المخالطة، لكن يبقى سؤال مهم ينبغي الإجابة عليه وهو:

ما هي الطريقة المثلى لمخالطة الفصحى؟


إذا عدنا إلى ما قاله ابن خلدون عن كيفية اكتساب ملكة الفصحى فسنجد أنه حدد الحفظ طريقة مثلى لذلك حين قال أن "وجه التعليم لمن يبتغي هذه الملكة ويروم تحصيلها أن يأخذ نفسه بحفظ كلامهم القديم الجاري على أساليبهم".

ولم يذكر ابن خلدون لماذا اختار الحفظ سبيلا أمثلا لمخالطة الفصحى، لكننا إذا فتشنا في مقدمته لوجدناه يقول في موضع آخر أن "السمع أبو الملكات اللسانية"، وهو ما يعني أن اختياره راجع والله أعلم إلى أن التأكد من حفظ نص ما يستلزم قراءته بصوت عال ولو كان المرء بمفرده، مما ينقل النص من خانة المقروء فقط إلى خانة المقروء والمسموع والمنطوق.

لكن مخالطة الفصحى لا تؤتي أكلها بالحفظ فقط حسب ما يرى ابن خلدون، إذ ينبغي الانتقال بعد الحفظ وربما بالتزامن معه إلى مرحلة الاستعمال والتعبير عن المقاصد حتى ترسخ الملكة المكتسبة ويصبح جريانها على اللسان تلقائيا، "وعلى قدر المحفوظ وكثرة الاستعمال تكون جودة المقول المؤلف".

إذن، إذا عرفنا أن التمكن من الفصحى يستلزم مخالطتها، وأن مخالطتها تستلزم معرفة منابعها، وأنها تكون بكثرة الحفظ والاستعمال، فماذا نحن فاعلون لنطبق ذلك في عصرنا الحالي؟

الحقيقة أن مخالطة الفصحى في عصرنا هذا لربما تكون، على عكس ما يعتقده البعض، أيسر من العصور السابقة، إذ يتوفر لدينا من التقنيات ما يتيح الفصحى وبغزارة أمام الجمهور، فالصغير يسمع الفصحى منذ نعومة أظفاره في الرسوم المتحركة، والكبار، متعلمين وأميين، يستمعون إليها في العديد من البرامج الإذاعية والمتلفزة، لا بل أننا لا نبالغ إذا قلنا أن انتشار الحواسيب والنت جعل الفصحى في متناول كل من طلبها.

لكننا مع كثرة سماعنا الفصحى في وسائل الإعلام لا نتقنها كما يجب، أو بالأصح، لا نتقن الحديث بها كما نتقن فهمها، والسبب في ذلك يعود إلى قلة حديثنا بها، وهو ما يجعل استعمالها استعمالا صحيحا تلقائيا عند الحديث بها أمرا صعبا للكثيرين منا.

ولذا فإن علينا أن نوجد السبل التي تمكننا من استخدام الفصحى وبكثرة حتى تجري على ألسنتنا، ولعل من أنجع تلك السبل أن تكون الخطابة والإلقاء والمناظرة موادا إلزامية في المدارس والجامعات وأن تربط بمناهج اللغة العربية حتى تحل مشكلة الفصحى في مهدها، و"يخرج الولد من عمر البلوغ إلى عمر الشبيبة وقد شدا بعض الشيء في العربية والشعر والتبصر بهما، وبرز في الخط والكتاب، وتعلق بأذيال العلم على الجملة".

الجمعة، 30 نوفمبر 2012

خلدونيات لغوية: عن دلالات اللهجات

اشتهر ابن خلدون بأنه مؤسس علم الاجتماع، حيث تحدث في مقدمته الشهيرة عن العديد من الأمور التي تتصل بقيام الدول والعمران البشري وصعود الحضارات واندثارها. وقد اهتم الباحثون وما زالوا بما كتبه ابن خلدون عن التاريخ والسياسة والاقتصاد والعلوم وغير ذلك من المواضيع التي احتوت عليها المقدمة، إلا أن موضوع اللغة وآراء ابن خلدون فيها لم يحظ بالاهتمام الكافي كما حظيت المواضيع الأخرى. ولذا فسوف نتحدث عن آراء ابن خلدون اللغوية في سلسلة مقالات محاولين شرحها وتقييمها ومعرفة كيفية الاستفادة منها في عصرنا الحالي. 
____________________________________________________________________

 يعد حرف القاف من أكثر الحروف تنوعا من حيث النطق في اللهجات العربية المختلفة، حيث نجد أن القاف الفصيحة تسود بعض اللهجات، بينما تسود القاف البدوية لهجات أخرى، وتنفرد مجموعة ثالثة عن غيرها بالقاف المهموزة، بينما تنطق القاف في عدد محدود من اللهجات كالكاف أو الغين.

وفي كثير من الدول العربية نجد اختلافا في نطق القاف بين بعض اللهجات داخل البلد الواحد، ففي مصر مثلا يستخدم غالبية أهل الوجه البحري القاف المهموزة، بينما يستخدم أهل الصعيد القاف البدوية. وفي تونس والجزائر والمغرب نجد أن بعض اللهجات تسودها القاف الفصيحة بينما تسود القاف البدوية لهجات أخرى. وفي سورية نجد أن للقافين الفصيحة والبدوية حضور رغم أن القاف المهموزة هي السائدة في غالبية لهجات البلد.

ولا يقتصر التنوع أحيانا على الاختلاف بين اللهجات، إذ نجد مثلا أن بعض الكلمات المحتوية على حرف القاف في لهجات وسط وجنوب العراق تنطق بالقاف البدوية وينطق بعضها الآخر بالقاف الفصيحة. ومن نافلة القول أن الكلمات المشتملة على القاف والمستخدمة في الفصحى دون أو أكثر من العامية تنطق بالقاف الفصيحة في كل لهجات العرب تقريبا، حتى في تلك التي تشيع فيها القاف المهموزة أو البدوية. (لاحظ مثلا أننا لا نجد قاهريا ينطق كلمات مثل "الفقه" و"الثقافة" و"الاقتصاد" بالقاف المهموزة).

وبعكس ما قد يعتقده البعض فإن وجود أكثر من نطق للقاف ليس ظاهرة وليدة عصرنا الحالي، فلقد وجد في الماضي على الأقل نطقان للقاف، وهما القاف الفصيحة ونظيرتها البدوية، واللتان تحدث عنهما ابن خلدون في مقدمته بشيء من الاستفاضة.

وبما أن ابن خلدون كان عالم اجتماع ومؤرخا في ذات الوقت، فإننا سنتحدث في هذا المقال عن الدلالتين الاجتماعية والتاريخية لنطق القاف ملخصين كلام ابن خلدون عن كل منهما في نقطتين، وهما كالتالي:

أولا، تحدث ابن خلدون عن الدلالة الاجتماعية لنطق القاف في اللهجات الدارجة في عصره، حيث ذكر أن أهل الأمصار، أي المدن، كانوا يستخدمون القاف الفصيحة، بينما كان أهل البادية يستخدمون القاف البدوية أينما وجدوا في بلاد العرب، حتى صار استخدامهم لتلك القاف البدوية "علامة عليهم بين الأمم والأجيال ومختصا بهم، لا يشاركهم فيه غيرهم".

وكما أن القاف الفصيحة كانت دليلا على الانتماء إلى المدن، فقد كانت القاف البدوية دليلا على الانتماء إلى البادية وأهلها، "حتى أن من يريد التعرب والانتساب إلى الجيل"، أي إلى أهل البادية، "يحاكيهم في النطق بها. وعندهم إنما يتميز العربي الصريح من الدخيل في العروبية أو الحضري بالنطق بهذه القاف".

يتضح من كلام ابن خلدون على أن طريقة نطق القاف كانت وسيلة لإظهار انتماء المتحدث ومعرفة أصله وفصله، إذ كان يعرف بها إذا ما كان من سكان المدن أو البادية، وإذا ما كان من أصحاب اللغة أو من الطارئين عليها ممن تعلموها على كبر، وكلا منهما من التصنيفات الاجتماعية التي تدل عليها لغة المرء أو لهجته أو لكنته.

ثانيا، تكلم ابن خلدون أيضا عن الدلالة التاريخية لنطق القاف، حيث حاول أن يجيب على سؤال يطرح نفسه وهو: إذا كان لدينا نطقين للقاف، فأيهما الأصل وأيهما الفرع؟ أيهما القديم وأيهما المستحدث؟

أجاب ابن خلدون على هذا السؤال مستعينا بالحقائق التي على الأرض، حيث نبه عند حديثه عن أهل البادية إلى حقيقتين، أولهما اتفاقهم "كلهم شرقا وغربا في النطق بها"، وثانيهما أنهم "أبعد عن مخالطة الأعاجم من أهل الأمصار"، وكلتا الحقيقتين تدلان تاريخيا على أن قاف البدو "متوارثة فيهم متعاقبة"، وأنها "لغة مضر الأولين"، لا بل "لعلها لغة النبي صلى الله عليه وسلم بعينها"، مما جعله يستنتج أن القاف البدوية أصل في اللغة العربية وأنها ليست ظاهرة حديثة مقارنة بالقاف الفصيحة.

لكن استنتاج ابن خلدون هذا لم يدفعه إلى القول بأن القاف الفصيحة الشائعة لدى أهل المدن هي المستحدثة، وذلك لأن "لغة أهل الأمصار أيضا لم يستحدثوها، وإنما تناقلوها من لدن سلفهم، وكان أكثرهم من مضر بما نزلوا الأمصار من لدن الفتح"، وبذلك فند ابن خلدون احتمالية القول بأن القاف الفصيحة مستحدثة، وأنها نشأت نتيجة مخالطة العجم في المدن، فحقيقة أن الكثير من العرب سكنوا المدن بعد الفتح تؤكد أن القاف الفصيحة أصل في اللغة العربية كما هي القاف البدوية.

إذن، إذا كانت القاف الفصيحة أصيلة في لغة العرب، وكذلك هي القاف البدوية، فهل يعني هذا أنه لا إجابة على السؤال المطروح أعلاه؟

بلى، يرد ابن خلدون، ففي "مخرج القاف متسع، فأوله من أعلى الحنك، وآخره مما يلي الكاف. فالنطق بها من أعلى الحنك هو لغة الأمصار، والنطق بها مما يلي الكاف هي لغة هذا الجيل البدوي".

ومعنى هذا الكلام أن دراية ابن خلدون بالعرب وبتاريخهم جعلته يستنتج أن العرب في عهد النبي وقبله استخدموا كلا من القاف الفصيحة ونظيرتها البدوية، أو أن بعضهم نطق بواحدة، ونطق البعض الآخر بالأخرى. ولكن بعد الفتوحات الإسلامية هاجر العرب واستوطنوا العديد من الأقطار خارج جزيرة العرب، فسادت القاف الفصيحة لهجات أهل المدن، بالإضافة إلى الفصحى بالطبع، وسادت القاف البدوية لهجات أهل البادية.

تطبيقات معاصرة
بعد أن لخصنا أهم ما ذكره ابن خلدون عن حرف القاف ودلالاته سنحاول في السطور القليلة التالية معرفة ما يمكن استفادته من كلامه في عصرنا الحالي قاصرين الحديث عن ذات النقطتين الواردتين أعلاه.

أولا، بالنسبة إلى الدلالة الاجتماعية للغة فإن الحديث عنها لا يتطلب الكثير من الشرح أو الإسهاب لأننا نعرف من الواقع أننا كثيرا ما نتخذ من اللكنات طريقة نستدل بها على أصل المتحدث وعلى مستواه التعليمي وطبقته الاجتماعية وما إلى ذلك من تصانيف.

وليس خافيا علينا أن تصنيف الناس بناءً على لكناتهم أمر مرتبط بما عرف عن مستخدمي لكنة معينة من صفات، فالكثير من الآباء مثلا ينكرون على أبنائهم استخدامهم ما يسمى "لغة الشوارع"، لأن ذلك قد يدل على أن الأبناء لم يربوا تربية حسنة من قبل آبائهم، مما قد يحط من قدرهم ومن قدر والديهم أمام الناس.

ولا يقتصر أثر اللغة الاجتماعي على اللكنة، أي طريقة النطق، ولكنه يتخطاه في كثير من الأحيان إلى اللهجة والتي تشمل اللكنة وتتعداها إلى اختيار الألفاظ وحتى بعض القواعد التي قد يختلف بعضها من لهجة إلى أخرى، ومن اللهجات إلى الفصحى بالطبع. ولقد شاهد جميعنا آخر خطاب للرئيس التونسي الأسبق والذي ألقاه من أجل التأثير على الناس واحتواء المظاهرات، ولاحظ الكثيرون أنه تحدث باللهجة التونسية بعكس خطابيه الأولين، وذلك لكي يبدو أقرب إلى الناس ويظهر لهم أنه لصيق بهم وبهمومهم.

لكن فشل الرجل في إقناع التونسيين وهروبه بعد خطابه بيوم دليل على أن محاولة استخدام لهجة ما بقصد إظهار الانتماء إلى فئة معينة لا تنجح دائما إذا لم يصدق المستمعون المتحدث، ولذلك ذكر ابن خلدون في معرض حديثه عن القاف البدوية أن "من يريد التعرب والانتساب إلى الجيل والدخول فيه يحاكيهم في النطق بها"، والمحاكاة قد تنجح أحيانا وقد تفشل أحيانا أخرى.

ولذلك فإن من المهم أن ندرك أنه بالرغم مما للكنات واللهجات من دلائل اجتماعية، إلا أنها بمفردها لا تكفي، فقدرة أحدهم على محاكاة الأطباء مثلا في كلامهم ومصطلحاتهم لا تعني أنه طبيب، وهو ما يعني أن من المفترض أن تكون لكنة أحدهم أو لهجته مظهرا للانتماء لفئة أو أمة ما، لكنها في كثير من الأحيان تكون وسيلة للانتماء بدلا من أن تعكسه، لأن بعض الناس كثيرا ما يأخذون بالشكل دون المضمون، فينخدعون بفصاحة أحدهم أو حديثه كعلية القوم.

ثانيا، بالنسبة لكل من القاف الفصيحة والقاف البدوية فقد رأينا كما ورد أعلاه أن ابن خلدون خلص إلى القول بأن كلتا القافين أصيلتان في اللغة العربية، وأن القاف الفصيحة سادت لهجات المدن، والفصحى بالطبع، بينما سادت نظيرتها البدوية كلام أهل البادية.

وإذا حاولنا التحقق من صحة ما خلص إليه ابن خلدون فإننا نجد أن فيه قدرا كبيرا من الوجاهة، فرغم وحدة العرب اللغوية في الجاهلية وعصور الإسلام الأولى إلا أن هذا لا يعني أنه لم يوجد تنوع بين ما سماه علماء اللغة لغات العرب، أي لهجاتهم، فقد اختصت بعض القبائل بنطق بعض الحروف نطقا مختلفا، وكان هناك بعض التباين بين بعض القبائل في شيء من النحو ومعاني الكلمات. (راجع المقتضب في لهجات العرب للدكتور محمد رياض كريم).

ولقد ذكر ابن فارس والذي عاش في القرن الرابع الهجري، أي قبل ابن خلدون بأربعمائة عام، في كتابه الصاحبي في فقه اللغة العربية ومسائلها وسنن العرب في كلامها أن بني تميم "يلحقون القاف باللهاة حتى تغلظ جدا فيقولون (القوم) فيكون بين الكاف والقاف، وهذه لغة فيهم".

كما نقل ابن حيان الأندلسي في كتابه ارتشاف الضرب من لسان العرب عن أبي سعيد السيرافي (توفي ٣٦٨هـ) قوله: "رأينا من يتكلم بالقاف بينها وبين الكاف انتهى، وهي الآن غالبة على لسان من يوجد في البوادي من العرب، حتى لا يكاد عربي ينطق إلا بالقاف المعقودة، لا بالقاف الخالصة الموصوفة في كتب النحويين، والمنقولة عن وصفها الخالص على ألسنة أهل الأداء من أهل القرآن".

ولقد كان ابن خلدون على علم بهذه الأقوال، إذ أشار إلى أن "أهل العربية قد ذكروا هذه القاف القربية من الكاف"، إلا أنه أخذ عليهم أنهم "يصرحون باستهجانه واستقباحه"، أي الحرف، "كأنهم لم يصح عندهم أنها لغة الجيل الأول".

ويتضح من كلام ابن خلدون أنه لم يكن يعتبر كل ما ورد في اللهجات العامية خارجا عن أصل اللغة العربية، فرغم إشارته في أكثر من موضع في مقدمته إلى أن فساد العربية جاء بعد مخالطة الأعاجم، إلا أن كلامه عن القاف البدوية وأصلها العربي يدل على أن إدراكه لحقيقة أن اللغة ظاهرة اجتماعية جعله يعتمد على اتخاذ متحدثي اللغة معيارا لمعرفتها ومعرفة أصلها، ولذلك نجد أنه استنتج من استخدام أهل البادية "كلهم شرقا وغربا" القاف البدوية أنها أصيلة وليست مستحدثة، إذ يصعب أن يكون وجودها في كلامهم صدفة وهم يعيشون بعيدا عن بعضهم، فهل اجتمعوا من شرق ومن غرب وقرروا هجر القاف الفصيحة واستبدالها بنظيرتها البدوية مثلا؟

ولا يختلف الأمر كثيرا اليوم عن عصر ابن خلدون، فالقاف البدوية رغم عدم استخدامها في الفصحى موجودة بنسب متفاوتة في كل الدول الدول العربية، إذ تسود لهجات بعض الدول، وتكون على الهامش في البعض الآخر، وهو ما يؤكد أنها أصيلة في اللغة، إذ يكاد يستحيل أن يتواطأ مستعمليها من المحيط إلى الخليج على هجر القاف الفصيحة وإحلال نظيرتها البدوية محلها، وهو ما يعني أنها كانت جزءً لا يتجزأ من كلام العرب الذين هاجروا واستوطنوا الأقطار التي سادت فيها.

وإذا طبقنا منهج ابن خلدون على جوانب أخرى من لهجات العرب المعاصرة فسنجد الكثير من المشتركات التي يصعب تفسيرها دون النظر إلى تاريخ الناطقين بالعربية في بلاد العرب، فكلمة "ماذا" في الفصحى مثلا تستبدل ب"شنو" في العراق وبعض دول الخليج، وتحل محلها "وش" أو "أيش" في السعودية، ثم تعاود "شنو" الظهور في السودان. وينطبق ذات الشيء على "شو" الشائعة في الإمارات وفي بلاد الشام. أما كلمة "ماشي" بمعنى "لا يوجد" فنجدها في اليمن وفي المغرب.

ومن الملاحظ في هذه الأمثلة وفي الكثير غيرها من المشتركات في لهجات العرب المعاصرة أنها مستخدمة في لهجات غير متصلة جغرافيا، مما يعزز القول بأنها ليست مستحدثة، بل هي قديمة وأصيلة حتى وإن كانت خارج نطاق الفصحى المتداولة في الماضي أو في الحاضرأو في كليهما. وقد يكون بعض تلك المشتركات مما استحدث لاحقا، أي بعد عصر الفتوحات، ثم انتقل مع من هاجر من قطر إلى آخر، فالهجرات لم تقتصر على عصور الإسلام الأولى.

ولا ينافي ذلك أن هناك بعض الظواهر اللغوية التي نجدها في كل لهجات العرب الحالية تقريبا رغم أنها لم تكن توجد عند العرب في الجاهلية وفي عصر صدر الإسلام، فلقد اختفت جل مظاهر الإعراب من الكلام الدارج منذ زمن بعيد، وانحسرت إن لم تكن قد تلاشت صيغ المثنى في الأفعال، مما قد يشير إلى أن هذه التغيرات راجعة إلى البنية الداخلية للغة العربية وإلى طبيعة اللغات عامة.

يتضح لنا إذن أن دراسة تاريخ العرب ولهجاتهم وهجراتهم منذ عصر الفتوحات وحتى الحاضر من أكثر ما يمكن أن يساعدنا على فهم أصول اللهجات العربية الحالية، وذلك بالطبع دون إغفال دراسة تاريخ سكان البلاد العربية قبل أن يحل العرب فيها.

كما يتضح لنا أن دراسة تاريخ اللغات واللهجات دون دراسة الناطقين بها في الماضي والحاضر ودون معرفة طبيعة مجتمعاتهم كثيرا ما يجعلنا نقف حائرين عاجزين عن تفسير الكثير من جوانب اللغة المتعددة.

ولا ينبغي أن تكون دراسة اللهجات ترفا أو هواية يمارسها الشغوف باللغة، بل يجب أن تكون جزءً أصيلا من دراسة التاريخ الذي يفسر حاضرنا ويسهل لنا التخطيط لمستقبلنا.

وعلى سبيل المثال فإن حقيقة اشتراك لهجات العرب المعاصرة أو بعضها في بعض مخارج الحروف أو الكلمات أو القواعد التي لا توجد في الفصحى المتداولة تثبت أن اللغة العربية لم تنتشر خارج جزيرة العرب بفرمان أو مرسوم فرضها على الناس كما يحاول البعض أن يصور، إذ هي انتشرت مع هجرات القبائل التي أثرت لهجاتها على عربية الأقطار التي ارتحلت إليها. وهذا ما أشار إليه الجاحظ (توفي ٢٥٥هـ) في أوائل كتابه البيان والتبيين حين قال: "وأهل الامصار إنما يتكلمون على لغة النازلة فيهم من العرب، ولذلك تجد الاختلاف في ألفاظ من ألفاظ أهل الكوفة والبصرة والشام ومصر". (راجع المقال الأول في سلسلة خلدونيات لغوية لفهم أهمية العنصر البشري في انتشار اللغات).

خاتمة
لم يهتم العرب في الماضي بدراسة اللهجات كثيرا، فلقد كان جل جهدهم منصبا على الفصحى، لعظم أهميتها في فهم الكتاب والسنة، خصوصا بعد التغيرات التي طرأت على اللسان العربي بعد عصر الفتوحات. ولذلك كان القليل الذي كتب عن العامية يهدف إلى إيضاح الفروق بينها وبين الفصحى من أجل التمكن من الفصحى وإتقانها.

وما إن جاء العصر الحديث حتى بدأت مجموعة من المستشرقين الغربيين بدراسة اللهجات العربية وتدوين قواعدها، وهو أمر مستمر حتى يومنا هذا وإن تراجع دور المستشرقين بعد حل محلهم علماء اللغة الغربيين المتخصصين في اللغة العربية.

ولأن دراسة الغربيين للهجات ارتبطت إلى حد كبير بمحاولة تقعيد اللهجات الدارجة والتشجيع على هجر الفصحى فقد أضحت في يومنا هذا سيئة السمعة، لعلم الغيورين على الفصحى أن الهدف من تلك الدراسات الإحلال وليس الإثراء. (للاستزادة راجع كتاب تاريخ الدعوة إلى العامية وآثارها في مصر للدكتورة نفوسة زكريا سعيد).

ولذلك فإن من الضروري ألا تترك دراسة اللهجات لتكون مرتعا لمن يضيقون ذرعا بالفصحى ولمن سار على نهجهم من الانهزاميين والشعوبيين الجدد، إذ ينبغي أن يوضع البحث في اللهجات المعاصرة في سياقه الصحيح، بحيث يكون الهدف منه هو فهم علاقة اللهجات الدارجة ببعضها البعض، وفهم كيفية انتشارها خارج جزيرة العرب بالنظر إلى تاريخ هجرات العرب واللهجات التي جلبوها معهم أينما حلوا وتفاعلهم مع سكان البلاد التي ارتحلوا إليها ومع لغاتهم، وفهم دور اللهجات في مجتمعاتنا المعاصرة وتحديد مجالاتها وقياس مدى تسربها إلى مجالات الفصحى ومدى خطورة ذلك.

أما دراسة اللهجات بغرض فرضها محل الفصحى فلن تكون سوى مضيعة للوقت والجهد اللذان لا ينبغي بذلهما فيما لا يجدي، فالفصحى لها مجالاتها كما للهجات مجالاتها، وكلا منهما يؤدي أدوارا تختلف عن أدوار الآخر، فلا ينبغي أن يطغى أحدهما على الآخر، واللغة بجميع أوجهها ليست في الأصل من الأهداف بل هي من الوسائل، ولا يحبذ للمشتغلين بها التوسع فيها لدرجة اللغو، لأنهم، كما يتسائل ابن خلدون، إذا "قطعوا العمر في الوسائل، فمتى يظفرون بالمقاصد؟".

الأربعاء، 31 أكتوبر 2012

خلدونيات لغوية: عن الكلمات ومعانيها


اشتهر ابن خلدون بأنه مؤسس علم الاجتماع، حيث تحدث في مقدمته الشهيرة عن العديد من الأمور التي تتصل بقيام الدول والعمران البشري وصعود الحضارات واندثارها. وقد اهتم الباحثون وما زالوا بما كتبه ابن خلدون عن التاريخ والسياسة والاقتصاد والعلوم وغير ذلك من المواضيع التي احتوت عليها المقدمة، إلا أن موضوع اللغة وآراء ابن خلدون فيها لم يحظ بالاهتمام الكافي كما حظيت المواضيع الأخرى. ولذا فسوف نتحدث عن آراء ابن خلدون اللغوية في سلسلة مقالات محاولين شرحها وتقييمها ومعرفة كيفية الاستفادة منها في عصرنا الحالي.
___________________________________________________

أذكر أنني عندما كنت صغيرا كنت استعجب من ورود كلمة الشارع في كتاب الفقه المدرسي، حيث لم استطع حينذاك أن أفهم سبب استخدام كلمة ظننت مخطئا أنها تعني الطريق الذي نمشي فيه في السياقات التي كنت ألاقيها فيها، حتى أني فكرت أن أسأل أستاذي إذا ما كان ورود الكلمة خطأ مطبعيا. لكني ولله الحمد لم أفعل، ولو فعلت لكنت في زمرة من قال عنهم المتنبي:

وكم من عائب قولا صحيحا **** وآفته من الفهم السقيم

وكما أن الصغار يختلط عليهم معنى كلمة هنا أو هناك، فإن الكبار أيضا قد لا يفهمون المقصود من بعض الكلمات، إذ نجد مثلا أن الكثير من الباحثين في آراء ابن خلدون يختلفون حول استخدامه لكلمة "العرب"، فيقول بعضهم أنه عنى بها العرب بأجمعهم، ويقول البعض الآخر أنه قصد البدو منهم، ويقول فريق ثالث أنه استخدم اللفظ للإشارة إلى العرب عامة أحيانا وإلى الأعراب أحيانا أخرى كل حسب السياق.

ولأن ابن خلدون نفسه تكلم عن موضوع الكلمات ومعانيها في معرض حديثه عن اللغة في مقدمته فإننا سنحاول في هذا المقال أن نعرض كلامه ملخصين إياه في نقطتين، وهما كالتالي:

أولا، عد ابن خلدون الموضوعات اللغوية، أي الكلمات ومعانيها، الأساس الذي تبنى عليه اللغة، فهي أول ما يكتسبه الطفل الذي يسمع " استعمال المفردات في معانيها فيلقنها أولا. ثم يسمع التراكيب بعدها، فيلقنها كذلك". ولأنها الأساس فقد رأى ابن خلدون أنها يجب أن تحل في المرتبة الأولى عند الحديث عن علوم اللسان العربي بدلا عن النحو، والذي رأى علماء العربية وضعه في المرتبة الأولى لأن اللحن طاله أولا وقضى على جل مظاهر الإعراب في اللهجات العامية، وذلك بعكس المعاني التي لم يطلها ذلك القدر الهائل من التغيير.

ولا يعني إعطاء ابن خلدون الكلمات ومعانيها الأسبقية في ترتيب علوم اللسان العربي أنه عدها كافية لإتقان اللغة، فلقد أكد أن الملكة اللسانية، أي التمكن من اللغة، تقاس بمدى القدرة على تركيب الألفاظ تركيبا صحيحا على نحو كلام العرب. لكن هذا التركيب يعتمد بدوره على العلم بالكلمات ومعانيها، وهو العلم الذي سماه علماء العربية علم اللغة.

ولقد رأى ابن خلدون في ثبات الكلمات ومعانيها مقياسا لمعرفة مدى ابتعاد لهجة عن اللغة المتفرعة عنها، فعندما تحدث عن اللهجات العربية في عصره ذكر أن عربية البدو لم تكن تختلف عن الفصحى إلا في مسألة فقدانها حركات الإعراب، أما الغالبية العظمى من الألفاظ فلم "تزل في موضوعاتها الأولى"، أي أن الفارق بين عربية البدو والفصحى في عهده اقتصر على انتشار التسكين واستخدام حركات الإعراب استخداما مغايرا لنحو الفصحى، بينما بقيت غالبية الكلمات ومعانيها على حالها دون أن يطالها أي تغيير.

أما في المناطق الحضرية التي اختلط فيها العرب بالعجم فقد " استعمل كثير من كلام العرب في غير موضوعه عندهم ميلا مع هجنة المستعربين في اصطلاحاتهم المخالفة لصريح العربية"، أي أن عددا لا بأس به من الكلمات العربية تغير معناها في اللهجات الحضرية،  وذلك بالإضافة إلى فقدان الإعراب بالطبع، وهو ما دفع ابن خلدون إلى التأكيد على أن اللهجات الحضرية في زمنه كانت تختلف عن الفصحى وعن عربية البدو، "وهي عن لغة مضر أبعد"، أي أبعد عن الفصحى مقارنة بعربية البدو. (نجد على سبيل المثال أن كلمة اليوم يقابلها "النهارده" في اللهجة المصرية و"الليلة" في اللهجة السودانية).

وكما تكلم ابن خلدون عن اللهجات العربية في زمنه وعلاقتها بالفصحى فإنه قارن أيضا بين اللغتين العربية والحميرية، حيث ذكر أنه " تغيرت عند مضر كثير من موضوعات اللسان الحميري. وتصريف كلماته يشهد بذلك الأنقال الموجودة لدينا. خلافا لمن يحمله القصور على أنهما لغة واحدة ويلتمس إجراء اللغة الحميرية على مقاييس اللغة المضرية وقوانينها، كما يزعم بعضهم في اشتقاق "القيل" في اللسان الحميري أنه من "القول"، وكثير من أشباه هذا. وليس ذلك بصحيح. ولغة حمير لغة أخرى مغايرة للغة مضر في الكثير من أوضاعها وتصاريفها وحركاتها".

والشاهد في هذا الكلام أن العربية لغة مختلفة عن الحميرية لأن معاني كلماتها مختلفة، فكلمة "القيل" مثلا ليس لها صلة من ناحية المعنى بقال، يقول، قولا. وهذا مثال آخر على منهج ابن خلدون والذي بمقتضاه عد الكلمات ومعانيها الركن الركين الذي تقوم عليه اللغة، وهو ذات المنهج الذي جعله يؤكد أن اللحن في معاني الكلمات "أشر من اللحن في الإعراب وأفحش".

ثانيا، أشار ابن خلدون في نهاية فصله المعنون ب"علم اللغة" إلى البعد الاجتماعي للغة، حيث أوضح أن "النقل الذي تثبت به اللغة إنما هو النقل عن العرب أنهم استعملوا هذه الألفاظ لهذه المعاني، لا تقل إنهم وضعوها، لأنه متعذر وبعيد، ولم يعرف لأحد منهم. وكذلك لا تثبت اللغات بقياس ما لم يعرف استعماله على ما عرف استعماله بجامع يشهد باعتباره في الأول".

ويدل هذا الكلام على أن إثبات أن الكلمة الفلانية تعني كذا وكذا يجب أن يكون مبنيا على شواهد على هيئة نصوص شفوية أو مكتوبة، لا على رأي شخصي أو ادعاء لا يعضده اي دليل، وهذا عين ما فعله مثلا الخليل ابن أحمد الفراهيدي في معجمه "العين"، حيث اعتمد في جمع مادته على كلام الفصحاء من العرب الخلص وعلى نصوص القرآن والسنة وما روي عن العرب من شعر ونثر.

كما يدل كلام ابن خلدون على أن القياس ليس بحجة لإثبات صحة تعبير ما في اللغة، فلا يمكن لمدير مثلا أن يأمر موظفيه "بالطاعة الكفيفة" لمجرد اشتراك كلمتي "كفيف" و"أعمى" في المعنى، فالتعبير الذي عرف استعماله بين الناس هو "طاعة عمياء"، ولا يمكن استبداله بقياس ما لم يعرف استعماله عليه.

وقد يمكننا أحيانا استبدال كلمة بأخرى في بعض السياقات دون تغير المعنى، فنقول مثلا "جريدة" عوضا عن "صحيفة"، و"باخرة" بدلا عن "سفينة"، لكن معيار صحة الاستعمال يبقى مدى شيوع استخدام الكلمات عند أصحاب اللغة وإن تعددت الخيارات.


شواهد وفوائد
بعد أن لخصنا أهم نقتطين تحدث عنهما ابن خلدون في مقدمته بخصوص الكلمات ومعانيها سنحاول فيما يلي أن نأتي على ذكر بعض الشواهد لمعرفة مدى مطابقة كلامه للواقع وسنحاول أيضا أن نذكر ما يمكن أن يستفاد من كلامه. ولهذا الغرض نورد النقطتين التاليتين:

أولا، بالنسبة للنقطة الأولى الخاصة بتقديم الكلمات ومعانيها على ما سواها من علوم اللسان العربي نجد أن كلام ابن خلدون فيه قدر كبير من الصحة، فأول ما ينطق به الطفل من اللغة كما ورد آنفا ليس سوى كلمات منفردات لا تركيب بينها، ثم ينتقل بعد أن يكبر قليلا إلى مرحلة الجمل المركبة، مما يدل على توافق ترتيب ابن خلدون مع الواقع.

لكن هذا لا يعني أن معرفة الكلمات ومعانيها كافية، لأنها بمفردها كالأساس بلا بنيان، ولذلك أكد ابن خلدون كما أشرنا سابقا أن " اللغات كلها ملكات شبيهة بالصناعة، إذ هي ملكات في اللسان للعبارة عن المعاني، وجودتها وقصورها بحسب تمام الملكة أو نقصانها. وليس ذلك بالنظر إلى المفردات، وإنما هو بالنظر إلى التراكيب. فإذا حصلت الملكة التامة في تركيب الألفاظ المفردة للتعبير بها عن المعاني المقصودة ومراعاة التأليف الذي يطبق الكلام على مقتضى الحال، بلغ المتكلم حينئد الغاية من إفادة مقصوده للسامع. وهذا هو معنى البلاغة."

ويدل هذا الكلام على أن علوم اللسان الأخرى من صرف ونحو وبلاغة، بالإضافة إلى السياق، لها دور كبير في قدرة المتكلم على التعبير وإفهام السامع، فكما أن هناك معنى لكل كلمة من كلمات جملة مثل "قتلَ الصيادُ النمرَ"، فإن هناك معنى للجملة ككل، وهو مرتبط بعلامات الإعراب التي تبين أن لنا أن الصياد هو القاتل والنمر هو المقتول.

لكن قواعد النحو قد تتغير إلى حد ما دون أن يؤدي ذلك إلى تغير في جوهر اللغة الذي يرتبط بالأساس بالكلمات ومعانيها، فعلى سبيل المثال نجد أن اللهجات الدارجة في البلاد العربية اليوم لا تلتزم بالإعراب وقد يختلف موقع الفعل في بعض جملها عن الفاعل مقارنة بالفصحى، ورغم ذلك تظل عربية لأن الغالبية العظمى من كلماتها عربية محتفظة بمعانيها الأصلية حتى في المناطق الحضرية التي قال ابن خلدون أن لهجاتها في زمنه كانت أبعد عن الفصحى مقارنة بلهجات البدو.

وبالمقابل نجد أن علاقة اللغات ببعضها والقدرة على تصنيفها في هذه الفصيلة أو تلك أمر يعتمد بشكل أساسي على مدى تشابه المفردات الأساسية في كل منها وتطابق أو تقارب معناها رغم ما اعتراها من تغيرات في النطق على مر الزمان. ولذلك نجد أن اللغة العربية تشترك مع لغات أخرى كالولزية وبعض لغات المايا في جنوب المكسيك وغواتيمالا في أن التركيب المبدئي للجمل (الفعلية منها بالنسبة للغة العربية) يبدأ بالفعل ثم الفاعل ثم المفعول به إن وجد، دون أن يكون ذلك دليلا على أن لتلك اللغات أدنى صلة ببعضها، فالاشتراك في بعض قواعد النحو لا يعد دليلا على انحدار مجموعة لغات من لغة واحدة إذا لم يكن هناك أي تشابه بين جزء معتبر من الكلمات.

نستخلص من كل ذلك إذن أن الكلمات، أو الموضوعات اللغوية كما أشار إليها ابن خلدون، هي عماد اللغة وأن تغير الكلمات أو تغير معانيها أعمق ما يمكن أن يعتري اللغة من تغيرات وأكثر ما يفصلها عن ماضيها.

ثانيا، إذا حاولنا أن نلخص كلام ابن خلدون عن علاقة البعد الاجتماعي للغة بالكلمات ومعانيها فإنه يمكننا القول أن مستخدمي اللغة هم من يكسبون الكلمات معانيها، وذلك بتوافقهم على أن كلمة كذا تستخدم لتعني كذا، مما يعني أنه يكاد يستحيل على فرد ما أن يقول أنه حر في استخدام كلمة "كرسي" مثلا ليعني بها "منضدة"، أو كلمة "حقد" ليعني بها "بهجة"، لأنه إن فعل ذلك لن يفهمه أحد ولن يستطيع أن يتواصل مع الآخرين.

ولا ينافي ذلك أن فردا ما أو مجموعة صغيرة من ذوي التأثير في المجتمع قد يستحدثون كلمة فتشيع فيه، فمع بدايات الثورة المصرية مثلا استحدثت كلمة "مليونية" للإشارة إلى مظاهرة ضخمة يشارك فيها مليون متظاهر أو أكثر، وما إن شاعت في المجتمع حتى ثبت معناها لدى الجميع رغم أن أول من استخدمها لم يكن سوى نفر قليل من القائمين على تنظيم المظاهرات.

ولا ينافي كلام ابن خلدون أيضا احتمالية وجود أكثر من معنى لكلمة واحدة، فقد يكون لكلمة ما عدة معان، وقد يكون لأخرى معنى عام يشيع بين عامة الناس ومعنى اصطلاحي يشيع بين فئة منهم، ككلمة الشارع التي وردت في مقدمة هذا المقال.

وبما أن الكلمات ومعانيها نتاج توافق على استعمال كل كلمة للإشارة إلى معنى أو عدد محدد من المعاني فإن ذلك يعني أنه لا أساس ولا صحة لما تزعمه حفنة من المميعين يقدمون لنا في لباس مفكرين من أن كل نص مفتوح على عدد لا متناه من التآويل، وأن كلا منا يمكن أن يفهم أي نص بطريقته دون الالتزام بأي مرجع أو قواعد، فحتى إن احتمل نص أكثر من معنى فإن عدد تفاسيره تظل محدودة، وذلك لأن فتح الباب على مصراعيه أمام شطحات كل مأول يظن نفسه المثقف المستنير فريد عصره من شأنه أن يضيع قيمة اللغة ويمنعها من تأدية وظيفتها الأساسية.

 ولذلك يقول الشيخ محمد المنجد في كتابه (بدعة إعادة فهم النص) أن "هذه الحياة تقوم على ما تواضع عليه الناس من دلالات لغوية يتم التفاهم بينهم بناءً عليها، ولو انتفى ذلك وأصبح كل واحد يفهم معاني النصوص بحسب تأويله الخاص الذي يقتضيه تكوينه الثقافي، فإن النتيجة أن لا يدرك أحد مدلول خطاب الآخر؛ فينعدم التواصل والتعاون" (صفحة ٤٦).

ثمة نقطة أخرى ينبغي الانتباه إليها وهو ما قد يستنتجه البعض من تأكيد ابن خلدون أن الكلمات ومعانيها واللغة عامة هي ما شاع استعماله بين الناس، فقد يرى البعض في ذلك دعوة إلى تقعيد اللهجات الدارجة وتنحية الفصحى لأن اللهجات هي ما درج الناس على استعماله، فكيف يمكن الرد على مثل هذا استنتاج؟

الحقيقة أن قولا كهذا فيه كثير من مجافاة الواقع، فاللهجات كما ذكرنا في مقال سابق ليست لغات مستقلة بذاتها عن الفصحى، إذ ينتمي كل منها إلى جسد اللغة العربية الواحد، بدليل أن الواقع يظهر أن متحدثي اللهجات أقدر على إتقان الفصحى بمخالطتها من غيرهم ممن ربي على لغة غير العربية. 

وحتى وإن زعم أحدهم أن تبني اللهجات الدارجة وإزاحة الفصحى ضرورة لأن العاميات وسيلة أنجع لتمكين الناس من التواصل مع بعضهم فإننا نقول أن فهما كهذا فيه تضييق لمعنى التواصل، فكما أننا نحتاج أن نتواصل مع بعضنا فإننا لا يمكن أن نستغني عن التواصل مع ماضينا وتراثنا، ناهيك عن أن الفصحى لا غنى عنها لكل من أراد فهم القرآن والسنة.

خاتمة
يتناقل البعض على النت روايات مضحكة عن بعض من يستخدمون آيات القرآن في غير محلها بسبب فهم مفرداتها فهما خاطئا، حيث يروى أن خياطا وضع على محله لافتة كتب عليها "وكل شيء فصلناه تفصيلا"، وأن زميلا له في المهنة علق لافتة مماثلة عليها قوله تعالى "نحن نقص عليك أحسن القصص"، وأن سائق حافلة أراد اجتذاب الركاب فكتب على حافلته "يا بني اركب معنا ولا تكن مع الكافرين". وليس بعيدا عن تلك الروايات ما نشاهده في بعض الأفلام المصرية من مشاهد يمسك فيها أحدهم بتلابيب آخر أو يهدده بآلة حادة ليجبره على دفع مال له قائلا "ادفع بالتي هي أحسن"!

وقد يرى البعض في بعض تلك الاستخدامات استغلالا غير مقبول لكلام الله، وقد يقول البعض الآخر أنها دليل على مدى تجذر الدين والقرآن في حياتنا، ولكن بغض النظر عن هذا وذاك فإن تلك الاستخدامات إن كانت نابعة عن جهل بمعاني المفردات الواردة فإنها تظهر مدى أهمية فهم الكلمات ومعانيها في فهم كلام الله عز وجل وفي حياتنا عموما.

ولا تشكل تلك الاستخدامات خطرا يذكر على فهم آيات القرآن لأنه متداول ومتدارس بيننا بكثرة، فحتى من لا يواظبون على قراءته يسمعون آيات منه يستشهد بها خطيب أو يتلوها إمام أو يشرحها عالم، مما يسهل تصحيح الأخطاء الناجمة عن عدم فهم معاني مفردات القرآن.

لكن الحال مختلف بعض الشيء بالنسبة للعديد من كتب علماء العصور الأولى، حيث يحتاج حتى بعض المتعلمين منا إلى إيضاح معاني ودلالات بعض الكلمات الواردة فيها حتى يسهل عليهم قراءتها وفهمها وإنزال المناسب من أفكارها على واقعنا.

وليس شرطا أن تكون تلك الكلمات  مهجورة، فقد نجد أن كثيرا منها مستخدم لدينا ولكن بمعنى مغاير أو بدلالة مختلفة، فعلى سبيل المثال يلاحظ الباحث في اللغة أن العرب أطلقوا كلمة "لسان" على ما نسميه نحن اليوم "لغة"، واصطلحوا على كلمة "لغة" للإشارة إلى ما نسميه نحن اليوم "لهجة". أما علماء اللغة فقد كان علم اللغة لديهم هو ذاك العلم المختص بالكلمات ومعانيها وليس بعلم اللغة عامة كما هو الحال اليوم، وعلم المعاني جزء من علم البلاغة وليس العلم المختص بمعاني الكلمات. والقارئ لمقدمة ابن خلدون يجد أنه استخدم كلمة "لغة" للإشارة إلى اللهجة أحيانا وإلى اللسان أحيانا أخرى كل حسب السياق.

ولذلك فإن من اللازم على الباحثين أن يعملوا على شرح التراث وتيسيره، وأن يخرجوا به من قاعات المؤتمرات إلى الناس، وألا يكون اختلاف بعض مصطلحات أسلافنا عائقا أمام فهم معاني ودلالات بعض كلمات أعمالهم، لأن نفائس تراثنا إن استغلقت علينا صارت لنا بمثابة التماثيل في المتحف، وصرنا لها بمنزلة من قال الله عنهم: "مثل الذين حملوا التوراة ثم لم يحملوها كمثل الحمار يحمل أسفارا".