تحدثت في المقال السابق عن الكيفية التي يمكن بها للغة أن تصرف الأنظار عن مضمون الكلام سواء كان جيدا أو فارغا، وسواء كانت لغة المتحدث أو الكاتب ضعيفة ركيكة أو قوية منمقة. وبينت على عجل أن فخ اللغة تزداد خطورته إن كان التعامل بلغة أجنبية، وذلك لأن الشكل في هذه الحالة كثيرا ما يطغى على المحتوى بسبب أن المستمعين يركزون على مدى إجادة المتحدث للغة الأجنبية أكثر من تركيزهم على مضمون كلامه لتوقعهم ارتكابه أخطاء لغوية. وهو إن لم يرتكب أي خطأ انبهروا به مستعجبين إجادته اللغة الأجنبية. وفي كلتا الحالتين يكون الشكل (اللغة) أهم من المضمون.
أما في هذا المقال فإني أود الحديث عن فخ آخر متعلق باللغات الأجنبية فقط دون لغتنا العربية. وقبل أن أسترسل في الحديث أود من القراء الأعزاء أن يسألوا أنفسهم سؤالا جوهريا، وهو: لماذا نتعلم اللغات الأجنبية؟
أعتقد أن كثيرا منا سوف يجيبون على هذا السؤال بقولهم أنهم يتعلمون اللغات الأجنبية للانتفاع بما تحتويه من علوم ومعارف وللتواصل مع العالم الخارجي، وذلك حتى يفيدوا أنفسهم وأهليهم وربما لكي ينتشلوا أمتهم العربية والإسلامية من حالة التخلف التي تمر بها وليسهموا في نهضتها. ومعنى ذلك أننا نتعلم اللغات الأجنبية مؤمنين بأننا نقوم بذلك من أجل تحقيق مصلحة.
ولكننا إن سلمنا بصحة هذا الطرح فإن سؤالا آخرا يتبادر إلى الذهن، ألا وهو: كم منا ممن يبذلون الغالي والنفيس لتعلم اللغات الأجنبية يقتصر استخداهم لها على مجالهم العلمي الذي تعلموها من أجله؟ وبمعنى آخر، كم من طالب طب أو طبيب حذق الإنجليزية من أجل الطب فغدا يستخدمها لقراءة كتب الفلسفات الإلحادية الغربية؟ وكم من مهندس أتقن الإنجليزية فما عاد همه سوى مشاهدة أفلام هوليود التي تحتوي الكثير من الموبقات الفكرية والمرئية؟ وكم من مبرمج تعلم الإنجليزية من أجل اكتساب علوم الحاسوب فصار يدندن طيلة يومه بما يفهمه وما لا يفهمه من الأغاني الأمريكية الصاخبة؟
ليست لدي أدنى فكرة عن عدد من يتقنون اللغات الأجنبية في عالمنا العربي، ولست أدري إن كانت هناك أصلا إحصائيات بهذا الصدد، ولكن ما هو واضح جلي أمام أعيننا أن إتقان اللغات الأجنبية صار أداة لتغريب مجتمعاتنا واستلاب فكرنا، خصوصا أن اللغات التي نتعلمها غالبا ما تكون تلك التي تنتمي إلى الحضارة الغربية التي تختلف اختلافا جذريا عن حضارتنا العربية الإسلامية، وخصوصا أن كلتا الحضارتين كان ومايزال وسيظل على الأرجح بينهما عداء وتنافس محموم.
وفخ اللغات الأجنبية هو ببساطة أنك تتعلمها معتقدا، إن كنت بالطبع من ذوي النية الحسنة، أنك لن تأخذ منها سوى ما تحتاجه من العلوم، فإذا بك تأخذ منها كل شيء، من صالحها الذي قد لا يصلح لك إلى طالحها الذي حتما يدمرك، إلى غير ذلك من الآفات التي تصيبك كاحتقار الذات وتبجيل الآخرين والإيمان بحتمية تفوقهم وعبثية مقاومتهم واللهث وراء اتباع أنماط حياتهم في جميع المجالات بحثا عن سراب الرقي والتقدم.
ولشيخ الإسلام ابن تيمية كلام جميل بخصوص اللغة، إذ يقول في كتابه اقتضاء الصراط المستقيم لمخالفة أهل الجحيم: واعلم أن اعتياد اللغة يؤثر في العقل والخلق والدين تأثيرا قـويا بينا ، ويـؤثر أيضا في مشابهة صدر هذه الأمة من الصحابة والتابعين ، ومشابهتهم تزيد في العقل والدين والخلق.
ولكم وددت أن أكتفي بقول ابن تيمية الموجز الذي يحمل العظيم من المعاني والذي يظهر نباهته وتعمقه وبعد نظره رحمه الله بالنسبة لقضية الاستقلال اللغوي، ولكني أعلم أن البعض يصيبه نوع من الحساسية بمجرد سماع اسم ابن تيمية، كما أعلم أن البعض لا يقتنع إلا بما يصدر عن أفواه السادة الغربيين. ولهؤلاء أورد النقطتين التاليتين:
١- تركز سياسة الإغواء الأمريكية منذ عدة أعوام على نشر اللغة الإنجليزية في العالم العربي والإسلامي من أجل التأثير على عقولنا بحيث نظن أن أمريكا دولة خيرة تود نشر السلام والوئام حول العالم. ويتم ذلك عبر عدة طرق من أهمها برنامج "التمكين" الذي ترعاه الحكومة الأمريكية، والذي تسعى من خلاله إلى تمكين الشباب بين سن الأربعة العشر والثمانية عشر من تعلم اللغة الإنجليزية بهدف غسل أمخاخهم ومن ثم تلويثها. وقد شارك في هذا البرنامج حوالي أربعة وأربعون ألف طالب من أكثر من خمس وخمسين دولة منذ عام ٢٠٠٤.
وقد يتسائل أحدهم قائلا: ما المشكلة في الاستفادة من ذلك البرنامج؟ والإجابة هي أن المشكلة بكل بساطة تكمن في المحتوى الذي يتم من خلاله تعليم اللغة الإنجليزية. ولمزيد من الإيضاح، وحتى لا أتهم بتبني نظرية المؤامرة، دعونا نطلع على ترجمة لجزئية وردت في مقال على مدونة جيمس جلاسمان أحد مسؤولي ومنظري دبلوماسية الإغواء الأمريكية، حيث يقول:
إذا ألقينا نظرة على العالم، فإننا نجد أنه ما من شخص إلا ويريد تعلم اللغة الإنجليزية. ولذا فإنه ينبغي علينا أن نروج لأفكارنا من خلال تلك اللغة. وقد شاهدت بأم عيني عندما زرت رام الله أطفالا فلسطينيين يتعلمون اللغة الإنجليزية عن طريق قراءة تاريخ السود في أمريكا والتعرف على عيد الشكر.
وبمعنى آخر فإن الهدف من ذلك البرنامج هو التبشير بالثقافة الأمريكية وليس نشر اللغة الإنجليزية فحسب. وهذا أمر متوقع، فلا لغة بدون ثقافة.
وفي خطاب منشور على مدونته يقول جلاسمان أن كارن هيوز والتي كانت تشغل قبله منصب وكيلة وزارة الخارجية الأمريكية للدبلوماسية الشعبية نصحته قبيل تسليمها المنصب له بأمرين أساسيين، أولهما الحرص على تمكين الفئة المستهدفة من الأجانب - أي العرب والمسلمين – من مقابلة الأمريكان والتحدث معهم، وثانيهما التركيز على نشر اللغة الإنجليزية. وباختصار فإنه يمكن تلخيص الهدف من كل هذا المجهود الأمريكي بالعودة إلى ما قاله جلاسمان في خطاب آخر له اختتمه بقوله:
التأثير: هذه هي المهمة التي اخترنا أن نضطلع بها.
والمعني بالتأثير هنا بالطبع هو الإغواء.
٢- تنتهج الحكومة الأمريكية سياسة الإغواء عن طريق العلوم والتكنولوجيا، وقد كانت هذه السياسة أحد أهم العوامل التي ساهمت في انتصار أمريكا على الاتحاد السوفيتي في الحرب الباردة كما يذكر الأستاذ رفيق عبد السلام في دراسته حول القوة الناعمة.
وتقوم الحكومة الأمريكية اليوم باتباع ذات المنهاج مع الدول التي ترغب في ترويضها دون الدخول في مواجهات عسكرية معها. ولهذا الغرض تم تأسيس المركز الأمريكي لدبلوماسية العلوم في عام ٢٠٠٨ لاستخدام العلوم والتكنولوجيا التي يعتقد البعض بحياديتها التامة في جذب الشعوب الكارهة لأمريكا إلى نمط الحياة الأمريكي ولإقناعها بأن أمريكا ليست بعدو. وبنظرة خاطفة على تقرير المركز السنوي نجد أن نشاطاته تتمحور حول التواصل مع دول بعينها مثل سوريا وإيران وكوريا الشمالية وكوبا.
ويقوم المركز بتشجيع التبادل العلمي من أجل تحسين صورة أمريكا بصورة أساسية وليس بهدف إفادة الآخرين أو إطلاعهم على آخر المستجدات العلمية. وقد تكون هناك أهداف أخرى كالتجسس على البلدان المستهدفة وربطها بأمريكا حتى يكاد يستحيل عليها تحقيق أي استقلال حقيقي. ومن أمثلة الإغواء بالعلوم والتكنولوجيا ما ذكره الأستاذ عبد العظيم حنفي عن اللقاءات التي تمت بين علماء إيرانيين وأمريكيين في واشنطن، والمكتبة العلمية العراقية على شبكة الانترنت التي افتتحتها أمريكا في عام ٢٠٠٦ للمساعدة في إعادة بناء البنية التحتية للتعليم والعلوم في العراق. وبمعنى آخر فإن أمريكا الرسمية تصفعك على خدك الأيمن ومن ثم تأتي أمريكا الشعبية لتقبلك على خدك الأيسر حتى تظل محتارا أعدوة هي أمريكا أم صديقة.
ومن نافلة القول أن الإغواء بالعلوم يلزمه بالطبع معرفة اللغة الإنجليزية.
ولا يجب أن نعتقد أن الترويج لأمريكا عن طريق اللغة الإنجليزية والعلوم الأمريكية أمر دبر بليل ليصعب كشفه، فكل ما ذكر أعلاه موجود على صفحات الإنترنت ويكمن الوصول إليه بمجرد نقرة، ولكن المشكلة أن كثيرا منا حين يقرأ لا يكلف نفسه جهد التفكر والتبصر في النصوص والأخبار حتى يستطيع أن يعقل ما يقرأ وحتى يستطيع أن يعرف ما يمكن أن يترتب على شيوع لغات كالإنجليزية والفرنسية بيننا من عواقب ونتائج كارثية لا يسعنا تجنبها سوى بتعريب العقول والعلوم والحياة العامة بكل جوانبها.
وإذا عدنا إلى صلب المقال وهو فخ اللغة لاستطعنا من خلال النظر في المقال السابق وهذا المقال من استنتاج الفرضية التالية:
كلما تمكنا من لغتنا العربية، كلما قلت احتمالية سقوطنا في فخها.
وكلما تمكنا من لغة أجنبية، كلما ازدادت خطورة سقوطنا في فخها.
وهذه الفرضية المستوحاة من كلام شيخ الإسلام ابن تيمية عن تأثير اللغة على العقل والخلق والدين لا يمكن إطلاقها على كل اللغات الأجنبية، فاللغة الأردية مثلا لا يمكن أن تشكل خطرا على عقولنا كالخطر الذي يمكن أن تشكله لغات كالإنجليزية أو الفرنسية أو الروسية أو الصينية، وذلك لاختلاف الحضارات التي تنتمي إليها تلك عن اللغات عن الحضارة التي تنتمي إليها اللغة الأردية واللغة العربية.
كما أن هناك حالات لأشخاص شذوا عن الفرضية كالشهيد سيد قطب الذي زار أمريكا ودرس فيها ولم يزده ذلك إلا ثباتا على الحق والدين، وكالمرحوم أنور الجندي الذي لم تضعف معرفته باللغة الإنجليزية عزيمته على الجهاد الفكري في سبيل الله. أضف إلى ذلك أنه يمكن الاستفادة من إنجازات الآخرين في حدود وذلك عن طريق استخدام لغاتهم لنقل ما يمكن نقله من المعرفة بعد غربلتها وتعريبها. ولكن الثابت أن ضرر المعرفة باللغات الأجنبية في عصرنا هذا أكبر من نفعها، وذلك لأن المرحلة التاريخية التي نمر بها حاليا تتطلب الانغلاق أكثر من الانفتاح.
وعليه فإن تعلم اللغات الأجنبية يجب أن ينحصر في فئة محددة تعرف الهدف من استخدام تلك اللغات. كما يجب على هذه الفئة أن تكون محصنة عقائديا وفكريا وثقافيا. وبهذا يكون تعلم اللغات من فروض الكفايات حسب ما ذكره الشيخ القرضاوي في فتوى له.
وحتى نحقق هذا الهدف فإن تعليم اللغات الأجنبية لهذه الفئة لا يجب أن يبدأ سوى في مرحلة عمرية متأخرة نسبيا يحددها التربيون، والغرض من هذا التأخير هو أن يعطى أفراد هذه الفئة وقتا كافيا للانعزال والانغماس في مشاكل مجتمعاتهم العربية حتى يتمكنوا من التعرف عليها جيدا وفهم احتياجاتها لكي تكون هناك أهداف محددة لعملية نقل العلوم من اللغات الأجنبية إلى اللغة العربية، ولكي يتمكن هؤلاء الأفراد من خلال هذا الانعزال من أن يحصنوا أنفسهم عقائديا وفكريا وثقافيا. وبالطبع فإن أحد أهداف هذا التأخير هو عدم تمكين هؤلاء الأفراد من الإتقان التام للغات الأجنبية كما يحدث مع خريجي المدارس الأجنبية الذين عادة ما تكون معدلات التغريب والاستلاب بالأمركة والفرنسة بينهم في أوجها.
وختاما فإنه يتعين علينا أن نتوخى الحذر حتى لا نقع في فخ اللغات الأجنبية وحتى لا تدخل الأفكار الهدامة عقولنا وتعشعش فيها إلى أن نؤمن أنه لا رب سوى الغرب.
أما في هذا المقال فإني أود الحديث عن فخ آخر متعلق باللغات الأجنبية فقط دون لغتنا العربية. وقبل أن أسترسل في الحديث أود من القراء الأعزاء أن يسألوا أنفسهم سؤالا جوهريا، وهو: لماذا نتعلم اللغات الأجنبية؟
أعتقد أن كثيرا منا سوف يجيبون على هذا السؤال بقولهم أنهم يتعلمون اللغات الأجنبية للانتفاع بما تحتويه من علوم ومعارف وللتواصل مع العالم الخارجي، وذلك حتى يفيدوا أنفسهم وأهليهم وربما لكي ينتشلوا أمتهم العربية والإسلامية من حالة التخلف التي تمر بها وليسهموا في نهضتها. ومعنى ذلك أننا نتعلم اللغات الأجنبية مؤمنين بأننا نقوم بذلك من أجل تحقيق مصلحة.
ولكننا إن سلمنا بصحة هذا الطرح فإن سؤالا آخرا يتبادر إلى الذهن، ألا وهو: كم منا ممن يبذلون الغالي والنفيس لتعلم اللغات الأجنبية يقتصر استخداهم لها على مجالهم العلمي الذي تعلموها من أجله؟ وبمعنى آخر، كم من طالب طب أو طبيب حذق الإنجليزية من أجل الطب فغدا يستخدمها لقراءة كتب الفلسفات الإلحادية الغربية؟ وكم من مهندس أتقن الإنجليزية فما عاد همه سوى مشاهدة أفلام هوليود التي تحتوي الكثير من الموبقات الفكرية والمرئية؟ وكم من مبرمج تعلم الإنجليزية من أجل اكتساب علوم الحاسوب فصار يدندن طيلة يومه بما يفهمه وما لا يفهمه من الأغاني الأمريكية الصاخبة؟
ليست لدي أدنى فكرة عن عدد من يتقنون اللغات الأجنبية في عالمنا العربي، ولست أدري إن كانت هناك أصلا إحصائيات بهذا الصدد، ولكن ما هو واضح جلي أمام أعيننا أن إتقان اللغات الأجنبية صار أداة لتغريب مجتمعاتنا واستلاب فكرنا، خصوصا أن اللغات التي نتعلمها غالبا ما تكون تلك التي تنتمي إلى الحضارة الغربية التي تختلف اختلافا جذريا عن حضارتنا العربية الإسلامية، وخصوصا أن كلتا الحضارتين كان ومايزال وسيظل على الأرجح بينهما عداء وتنافس محموم.
وفخ اللغات الأجنبية هو ببساطة أنك تتعلمها معتقدا، إن كنت بالطبع من ذوي النية الحسنة، أنك لن تأخذ منها سوى ما تحتاجه من العلوم، فإذا بك تأخذ منها كل شيء، من صالحها الذي قد لا يصلح لك إلى طالحها الذي حتما يدمرك، إلى غير ذلك من الآفات التي تصيبك كاحتقار الذات وتبجيل الآخرين والإيمان بحتمية تفوقهم وعبثية مقاومتهم واللهث وراء اتباع أنماط حياتهم في جميع المجالات بحثا عن سراب الرقي والتقدم.
ولشيخ الإسلام ابن تيمية كلام جميل بخصوص اللغة، إذ يقول في كتابه اقتضاء الصراط المستقيم لمخالفة أهل الجحيم: واعلم أن اعتياد اللغة يؤثر في العقل والخلق والدين تأثيرا قـويا بينا ، ويـؤثر أيضا في مشابهة صدر هذه الأمة من الصحابة والتابعين ، ومشابهتهم تزيد في العقل والدين والخلق.
ولكم وددت أن أكتفي بقول ابن تيمية الموجز الذي يحمل العظيم من المعاني والذي يظهر نباهته وتعمقه وبعد نظره رحمه الله بالنسبة لقضية الاستقلال اللغوي، ولكني أعلم أن البعض يصيبه نوع من الحساسية بمجرد سماع اسم ابن تيمية، كما أعلم أن البعض لا يقتنع إلا بما يصدر عن أفواه السادة الغربيين. ولهؤلاء أورد النقطتين التاليتين:
١- تركز سياسة الإغواء الأمريكية منذ عدة أعوام على نشر اللغة الإنجليزية في العالم العربي والإسلامي من أجل التأثير على عقولنا بحيث نظن أن أمريكا دولة خيرة تود نشر السلام والوئام حول العالم. ويتم ذلك عبر عدة طرق من أهمها برنامج "التمكين" الذي ترعاه الحكومة الأمريكية، والذي تسعى من خلاله إلى تمكين الشباب بين سن الأربعة العشر والثمانية عشر من تعلم اللغة الإنجليزية بهدف غسل أمخاخهم ومن ثم تلويثها. وقد شارك في هذا البرنامج حوالي أربعة وأربعون ألف طالب من أكثر من خمس وخمسين دولة منذ عام ٢٠٠٤.
وقد يتسائل أحدهم قائلا: ما المشكلة في الاستفادة من ذلك البرنامج؟ والإجابة هي أن المشكلة بكل بساطة تكمن في المحتوى الذي يتم من خلاله تعليم اللغة الإنجليزية. ولمزيد من الإيضاح، وحتى لا أتهم بتبني نظرية المؤامرة، دعونا نطلع على ترجمة لجزئية وردت في مقال على مدونة جيمس جلاسمان أحد مسؤولي ومنظري دبلوماسية الإغواء الأمريكية، حيث يقول:
إذا ألقينا نظرة على العالم، فإننا نجد أنه ما من شخص إلا ويريد تعلم اللغة الإنجليزية. ولذا فإنه ينبغي علينا أن نروج لأفكارنا من خلال تلك اللغة. وقد شاهدت بأم عيني عندما زرت رام الله أطفالا فلسطينيين يتعلمون اللغة الإنجليزية عن طريق قراءة تاريخ السود في أمريكا والتعرف على عيد الشكر.
وبمعنى آخر فإن الهدف من ذلك البرنامج هو التبشير بالثقافة الأمريكية وليس نشر اللغة الإنجليزية فحسب. وهذا أمر متوقع، فلا لغة بدون ثقافة.
وفي خطاب منشور على مدونته يقول جلاسمان أن كارن هيوز والتي كانت تشغل قبله منصب وكيلة وزارة الخارجية الأمريكية للدبلوماسية الشعبية نصحته قبيل تسليمها المنصب له بأمرين أساسيين، أولهما الحرص على تمكين الفئة المستهدفة من الأجانب - أي العرب والمسلمين – من مقابلة الأمريكان والتحدث معهم، وثانيهما التركيز على نشر اللغة الإنجليزية. وباختصار فإنه يمكن تلخيص الهدف من كل هذا المجهود الأمريكي بالعودة إلى ما قاله جلاسمان في خطاب آخر له اختتمه بقوله:
التأثير: هذه هي المهمة التي اخترنا أن نضطلع بها.
والمعني بالتأثير هنا بالطبع هو الإغواء.
٢- تنتهج الحكومة الأمريكية سياسة الإغواء عن طريق العلوم والتكنولوجيا، وقد كانت هذه السياسة أحد أهم العوامل التي ساهمت في انتصار أمريكا على الاتحاد السوفيتي في الحرب الباردة كما يذكر الأستاذ رفيق عبد السلام في دراسته حول القوة الناعمة.
وتقوم الحكومة الأمريكية اليوم باتباع ذات المنهاج مع الدول التي ترغب في ترويضها دون الدخول في مواجهات عسكرية معها. ولهذا الغرض تم تأسيس المركز الأمريكي لدبلوماسية العلوم في عام ٢٠٠٨ لاستخدام العلوم والتكنولوجيا التي يعتقد البعض بحياديتها التامة في جذب الشعوب الكارهة لأمريكا إلى نمط الحياة الأمريكي ولإقناعها بأن أمريكا ليست بعدو. وبنظرة خاطفة على تقرير المركز السنوي نجد أن نشاطاته تتمحور حول التواصل مع دول بعينها مثل سوريا وإيران وكوريا الشمالية وكوبا.
ويقوم المركز بتشجيع التبادل العلمي من أجل تحسين صورة أمريكا بصورة أساسية وليس بهدف إفادة الآخرين أو إطلاعهم على آخر المستجدات العلمية. وقد تكون هناك أهداف أخرى كالتجسس على البلدان المستهدفة وربطها بأمريكا حتى يكاد يستحيل عليها تحقيق أي استقلال حقيقي. ومن أمثلة الإغواء بالعلوم والتكنولوجيا ما ذكره الأستاذ عبد العظيم حنفي عن اللقاءات التي تمت بين علماء إيرانيين وأمريكيين في واشنطن، والمكتبة العلمية العراقية على شبكة الانترنت التي افتتحتها أمريكا في عام ٢٠٠٦ للمساعدة في إعادة بناء البنية التحتية للتعليم والعلوم في العراق. وبمعنى آخر فإن أمريكا الرسمية تصفعك على خدك الأيمن ومن ثم تأتي أمريكا الشعبية لتقبلك على خدك الأيسر حتى تظل محتارا أعدوة هي أمريكا أم صديقة.
ومن نافلة القول أن الإغواء بالعلوم يلزمه بالطبع معرفة اللغة الإنجليزية.
ولا يجب أن نعتقد أن الترويج لأمريكا عن طريق اللغة الإنجليزية والعلوم الأمريكية أمر دبر بليل ليصعب كشفه، فكل ما ذكر أعلاه موجود على صفحات الإنترنت ويكمن الوصول إليه بمجرد نقرة، ولكن المشكلة أن كثيرا منا حين يقرأ لا يكلف نفسه جهد التفكر والتبصر في النصوص والأخبار حتى يستطيع أن يعقل ما يقرأ وحتى يستطيع أن يعرف ما يمكن أن يترتب على شيوع لغات كالإنجليزية والفرنسية بيننا من عواقب ونتائج كارثية لا يسعنا تجنبها سوى بتعريب العقول والعلوم والحياة العامة بكل جوانبها.
وإذا عدنا إلى صلب المقال وهو فخ اللغة لاستطعنا من خلال النظر في المقال السابق وهذا المقال من استنتاج الفرضية التالية:
كلما تمكنا من لغتنا العربية، كلما قلت احتمالية سقوطنا في فخها.
وكلما تمكنا من لغة أجنبية، كلما ازدادت خطورة سقوطنا في فخها.
وهذه الفرضية المستوحاة من كلام شيخ الإسلام ابن تيمية عن تأثير اللغة على العقل والخلق والدين لا يمكن إطلاقها على كل اللغات الأجنبية، فاللغة الأردية مثلا لا يمكن أن تشكل خطرا على عقولنا كالخطر الذي يمكن أن تشكله لغات كالإنجليزية أو الفرنسية أو الروسية أو الصينية، وذلك لاختلاف الحضارات التي تنتمي إليها تلك عن اللغات عن الحضارة التي تنتمي إليها اللغة الأردية واللغة العربية.
كما أن هناك حالات لأشخاص شذوا عن الفرضية كالشهيد سيد قطب الذي زار أمريكا ودرس فيها ولم يزده ذلك إلا ثباتا على الحق والدين، وكالمرحوم أنور الجندي الذي لم تضعف معرفته باللغة الإنجليزية عزيمته على الجهاد الفكري في سبيل الله. أضف إلى ذلك أنه يمكن الاستفادة من إنجازات الآخرين في حدود وذلك عن طريق استخدام لغاتهم لنقل ما يمكن نقله من المعرفة بعد غربلتها وتعريبها. ولكن الثابت أن ضرر المعرفة باللغات الأجنبية في عصرنا هذا أكبر من نفعها، وذلك لأن المرحلة التاريخية التي نمر بها حاليا تتطلب الانغلاق أكثر من الانفتاح.
وعليه فإن تعلم اللغات الأجنبية يجب أن ينحصر في فئة محددة تعرف الهدف من استخدام تلك اللغات. كما يجب على هذه الفئة أن تكون محصنة عقائديا وفكريا وثقافيا. وبهذا يكون تعلم اللغات من فروض الكفايات حسب ما ذكره الشيخ القرضاوي في فتوى له.
وحتى نحقق هذا الهدف فإن تعليم اللغات الأجنبية لهذه الفئة لا يجب أن يبدأ سوى في مرحلة عمرية متأخرة نسبيا يحددها التربيون، والغرض من هذا التأخير هو أن يعطى أفراد هذه الفئة وقتا كافيا للانعزال والانغماس في مشاكل مجتمعاتهم العربية حتى يتمكنوا من التعرف عليها جيدا وفهم احتياجاتها لكي تكون هناك أهداف محددة لعملية نقل العلوم من اللغات الأجنبية إلى اللغة العربية، ولكي يتمكن هؤلاء الأفراد من خلال هذا الانعزال من أن يحصنوا أنفسهم عقائديا وفكريا وثقافيا. وبالطبع فإن أحد أهداف هذا التأخير هو عدم تمكين هؤلاء الأفراد من الإتقان التام للغات الأجنبية كما يحدث مع خريجي المدارس الأجنبية الذين عادة ما تكون معدلات التغريب والاستلاب بالأمركة والفرنسة بينهم في أوجها.
وختاما فإنه يتعين علينا أن نتوخى الحذر حتى لا نقع في فخ اللغات الأجنبية وحتى لا تدخل الأفكار الهدامة عقولنا وتعشعش فيها إلى أن نؤمن أنه لا رب سوى الغرب.
هناك تعليق واحد:
ياريت أخي الكريم يكون بيننا تواصل بالبريد الألكتروني
ضروري جداً
umsultaan@hotmail.com
إرسال تعليق