الأربعاء، 31 مارس 2010

حرف القاف

في العام الماضي نشر الكاتب والمدون المعروف أشرف فقيه مقالا في مدونته تناول فيه ما وصفه بأزمة كتابة الكلمات الأجنبية التي تحتوي على صوت القاف الدارجة (القاف التي ينطق بها متحدثوا العديد من اللهجات العربية في العصر الحالي). واقترح الكاتب أن نحل مشكلة نطق كلمات مثل قوقل وعبد الله جل والغولف بإضافة حرف الگاف الذي يستخدم في الفارسية والأردية والكردية إلى أبجديتنا العربية لكتابة الكلمات الأجنبية التي بها صوت القاف الدارجة.

وعندما قرأت المقال ظننت أنه ليس سوى اقتراح عابر يمثل فكرة معزولة يندر تطبيقها، ولكني علمت فيما بعد عن طريق الكاتب والمدون ماجد الحمدان أن موسوعة المعرفة تستخدم حرف الگاف لكتابة الكلمات الأجنبية التي يرد فيها صوت القاف الدارجة، فجاليلو يكتب گاليلو. ولذا فإني هنا بصدد الرد على الحجج التي ساقها أشرف فقيه في مقاله الذي أرجو من القراء الأعزاء قراءته قبل مواصلة قراءة هذا المقال حتى لا أكون قد ظلمت الرجل بعرضي الموجز لفكرته في الفقرة الأولى من مقالي هذا. والرد الذي أود عرضه في السطور التالية ليس فقط على مقال أشرف فقيه، وإنما أتمنى أيضا أن يكون بمثابة تنبيه للقائمين على موسوعة المعرفة إلى ما يمكن أن يترتب على تبني حرف الگاف من عواقب. ولهذا الغرض أورد النقاط الآتية:

١- من البديهي أن الحروف الأبجدية لأية لغة تستخدم من أجل كتابة أصواتها الأصيلة وليس الدخيلة. ولهذا السبب استحدث الفرس حرف الگاف ليرمزوا به إلى صوت أصيل في لغتهم. والقاف الدارجة ليست بدخيلة على اللهجات العربية، فهي موجودة فيها منذ زمن بعيد نسبيا إلى درجة أن ابن خلدون تحدث عنها في مقدمته، ولكنها في ذات الوقت غريبة على اللغة العربية الفصحى حيث تحل محلها القاف الفصيحة. ولذا لا نكاد نجد اليوم متحدثا يتحدث العربية الفصحى وينطق بالقاف الدارجة خلال حديثه بها. وباختصار فإن إضافة حرف لكتابة الكلمات الأجنبية يعني أننا نغير لغتنا الفصحى من أجل الأجانب، فهل يعقل هذا؟

٢- ليس شرطا لصحة نطق الكلمات الأجنبية أن ننطقها متبعين منهج "حذو النعل بالنعل"، فهذا إما من قبيل الفذلكة أو الاستلاب اللغوي والثقافي، وذلك لأن الكلمات المستعارة يجب تحويرها بحيث تلائم نسق اللغة المنقولة إليها. وهذا ما تم في الماضي ويتم في الحاضر في العديد من اللغات حول العالم، فجل الناطقين بغير العربية لا يلفظون كلمة "انتفاضة" كما نلفظها نحن، ورجل الشارع العربي إذا سمع كلمة "ديمقراطية" يخالها عربية قحة من وقع القاف والطاء فيها. وهذا كله حفاظ على تجانس اللغة.

ويذهب أشرف فقيه إلى أن تخلفنا وضعفنا الحالي لا يسمح لنا بأن ننتصر للغة العربية ونعتز بها لأن هذا على حد قوله كلام عاطفي وغير عملي. ولكن نظرة خاطفة على التاريخ تثبت أن التخلف الحضاري لا يؤدي بالضرورة إلى الاستسلام اللغوي، فالعرب استعاروا العديد من الكلمات الفارسية قبل الإسلام، وبالرغم من تخلفهم وتقدم الفرس آنذاك فإن الكلمات الفارسية التي تبنوها حورت حتى تناسب نسق اللغة العربية. ومن أمثلة ذلك بنفسج وتاج وسمسار، بالإضافة إلى ألفاظ أخرى ورد بعضها في القرآن الكريم مثل أباريق وأسباط وإستبرق وتنور وسندس. وقد ذكر الإمام السيوطي هذه الألفاظ وغيرها مما يعود أصله إلى لغات أخرى غير الفارسية في رسالته المعنونة المهذب فيما وقع في القرآن من المعرب.

ولقد كانت تلك الألفاظ قد تعربت تماما وتجذرت في اللغة العربية بحيث لم يقدح ورودها في القرآن في كونه نزل بلسان عربي. والسؤال الذي يطرح نفسه هنا هو كيف استطاع عرب الجاهلية المتخلفون أن يطوعوا الكلمات الأجنبية لتلائم لغتهم بالرغم من ضعفهم مقارنة بالأمم التي كانت حولهم؟

ولا يفوتنا هنا أن نذكر أن الغرب في عصر تخلفه أخذ من اللغة العربية عددا من الكلمات التي تم تحويرها لكي تتماشى مع النسق اللغوي لكل لغة أوروبية. ولا أود أن أسرد هنا قائمة بتلك الكلمات حتى لا أتهم بأني أعيش على أمجاد الماضي. ولكن الدرس الذي يجب علينا أن نعيه هو أن الوهن والتخلف الذي عاشه العرب قبل الإسلام والغرب بعد الإسلام لم يجبر أيا منهما على تغيير لغته وحروفها لتنطق بما ليس فيها، فهلا قرأنا التاريخ؟

٣- إن إشكالية صوت القاف تكمن في أن صيغته الدارجة ليست مستخدمة في العربية الفصحى، ولهذا فإن قدرتنا على نطق الكلمات الأجنبية التي تحتوي على القاف الدارجة نابعة من لهجاتنا وليس من اللغة العربية الفصحى. وبالتالي فإن لنا أن نتخيل ما يمكن أن يقع من كوارث إذا أضفنا حرف الگاف إلى أبجديتنا.

عندها يمكن أن يحصل خلط بين القاف الفصيحة والقاف الدارجة عند كتابة الكلمات العربية الأصيلة وليس حفنة الكلمات الأجنبية التي بها صوت القاف الدارجة.
عندها سوف يزول تدريجيا حرف القاف من الكتابات العامية ومن ثم سيستبدل العديد من العرب القاف الفصيحة بالگاف الجديدة.
عندها سيكتب المصري جيمه القاهرية مستخدما الحرف الجديد كما ورد في تعليق على مقال أشرف فقيه كتب فيه أحدهم: گزاك الله الف خير, الموضوع ده مگنيني من زمان اوي.

وقد يقول قائل: ما المشكلة إذا ما تحقق هذا السيناريو؟
والإجابة هي أن حرف الگاف المقترح من المفترض أن يقتصر استعماله على الكلمات الأجنبية فقط، فإذا به يستخدم لزعزعة ركن من أركان اللغة العربية ولتعميق الفجوة بين فصحتها ودارجاتها. وكل هذا بسبب قصر النظر وقلة التبصر والتفكر في عواقب الأمور.


وإذا كان البعض يرون أن مسألة كتابة الكلمات الأجنبية التي بها حرف القاف الدارجة تشكل بالفعل مشكلة، وما هي بذلك، فلهم أن يعلموا أن هذه المسألة قد تعرض لها أبو منصور الجواليقي في كتابه المعرب من الكلام الأعجمي على حروف المعجم، والذي يقول فيه التالي:

باب معرفة مذاهب العرب في استعمال الأعجمي

إعلم أنهم كثيرا ما يجرئون على تغيير الأسماء الأعجمية إذا استعملوها. فيبدلون الحروف التي ليست من حروفهم إلى أقربها مخرجا.
وربما أبدلوا ما بعد مخرجه أيضا.
والإبدال لازم. لئلا يدخلوا في كلامهم ما ليس من حروفهم.
وربما غيروا البناء من الكلام الفارسي إلى أبنية العرب.
وهذا التغيير يكون بإبدال حرف من حرف، أو زيادة حرف، أو نقصان حرف، أو إبدال حركة بحركة، أو إسكان متحرك أو تحريك ساكن.
وربما تركوا الحرف على حاله ولم يغيروه.

فمما غيروه من الحروف ما كان بين الجيم والكاف، وربما جعلوه جيما، وربما جعلوه كافا، وربما جعلوه قافا، لقرب القاف من الكاف، قالوا: "كربج" وبعضهم يقول "قُرْبَق".
قال أبو عمرو: سمعت الأصمعي يقول: هو موضع يقال له: "كربك"، قال: يريدون "كربج". قال سالم بن قحفان في "قُرْبَق":
ما شربت بعد طوي القُرْبَق *** من شربة غير النجاء الأدفق



القُرْبَق في القاموس المحيط هو دكان البقال.



يتضح لنا من كلام الجواليقي أن هناك طرقا لتعريب الكلمات الأجنبية من حيث الأصوات والأوزان، وأن هذه الطرق، وإن كانت مرنة، تهدف في نهاية المطاف إلى الحفاظ على تجانس اللغة العربية، ولا ينطبق هذا على صوت القاف الدارجة فقط، وإنما على أصوات وحروف وأوزان أخرى ذكرها الجواليقي في كتابه ولا يتسع المقام لسردها هنا.

وبالنسبة لصوت القاف الدارجة فإننا يمكن أن نضيف خيارا رابعا بجانب الخيارات الثلاثة التي ذكرها الجواليقي وهي الكاف والقاف والجيم، وهذا الخيار هو حرف الغين الذي يستخدم في كلمات مثل جغرافيا وغرناطة وغانا وأغندا وبلغاريا. والملاحظ هنا أن هذه الكلمات وغيرها التي ترد بصوت القاف الدارجة في لغاتها الأصل كسرقسطة وملقة قد ترسخت في لغتنا العربية ولم يعد الصوت الذي حل محل صوت القاف الدارجة شاذا.

ولذا فإن كل ما ينبغي علينا فعله هو أن نعطي كلمات مثل قوقل وعبد الله جل وغردون براون بعض الوقت حتى نألف إحدى طرق لفظها سواء كانت بالقاف أو الكاف أو الجيم أو الغين، فهذا منهاج مجرب وقد ثبتت نجاعته، ولذا فإنه أولى أن يتبع بدلا من اقتراح الگاف الذي تفوح منه رائحة التبعية والانهزامية وقصر النظر وانعدام الروية والجهل بالتاريخ وبطبيعة لغتنا.