السبت، 31 ديسمبر 2011

حروفهم في لغتنا

لو قدر لعربي من الماضي أن يبعث من جديد ويتصفح بعضا مما يكتبه عرب اليوم لهاله أمر عجيب يمر على الكثير منا مرور الكرام، ألا وهو استخدام كلمات أجنبية بحروف أجنبية عادة ما تكون انجليزية أو فرنسية في متن الكتابات العربية. ولو سأل عربي الماضي كتاب الحاضر لماذا يرتكبون فعلتهم هذه لأجاب كثير منهم بأن الهدف من ذلك توضيح مقصود الكاتب، ولضحك عندها عربي الماضي من تلك الإجابة العجيبة، فهل يعقل أن يستخدم أحدهم كلمة أجنبية بحروف أجنبية لإيضاح كلمة عربية للقراء العرب؟؟

ولأن شر البلية ما يضحك، فإنه حري بنا أن نحلل تلك البلوى لنعرف بعضا من آثارها السلبية على لغتنا وعقولنا وثقافتنا، والتي من أهمها الآثار الثلاثة التالية:

١- يؤدي استخدام الكلمات الأجنبية بجانب مقابلاتها العربية إلى شعور الكاتب بعدم أهمية انتقاء الترجمة المناسبة للكلمات الأجنبية ظنا منه بأن القارئ إن لم يفهم ترجمته العربية السيئة أو الركيكة فسيفهم مقصوده من الكلمة الانجليزية أو الفرنسية الملاصقة للكلمة العربية. وغالبا ما يؤدي ذلك أيضا إلى جعل الكلمة العربية غير قادرة على الخروج من جلباب نظيرتها الأجنبية. ومثال ذلك السياسة التي تتبعها تركيا مع جيرانها والتي يعبر عنها الكثير من الكتاب العرب بترجمات مثل "صفر مشاكل" و"صفر مشكلات" و"صفر مشكلة"، وكلها ترجمات تحمل قدرا هائلا من الركاكة يجعلنا نظن أن مستخدميها لا يفقهون من العربية شيئا، وما هم كذلك، ولكنه الأصل الانجليزي الذي لم يستطع المترجمون التخلص من قيوده والفكاك من أسره.

٢- في كثير من الأحيان يمكن أن يكون المقابل العربي للكلمة الأجنبية مفهوما لكونه ترجم ترجمة جيدة، ولكن إصرار مستخدميه على إلحاق المقابل الأجنبي به يجعل من العسير أن يرسخ في الذاكرة بمفرده دون وصاية من الكلمة الأجنبية. ومثال ذلك ما ذكره أحدهم أنه سأل أستاذه سؤالا عن التخطيط، فلم يفهم الأستاذ مقصوده حتى ذكر له المقابل الانجليزي للكلمة، وذلك رغم أن كلمة تخطيط شائعة فضلا عن أنها ليست بمصطلح أصلا، ولكنه سحر الكلمات الأجنبية التي تقلب المعايير وتجعل البديهي مستغربا بل مستهجنا أحيانا. (شاهد هذا المقطع لترى كيف أن المتحدث لم يستطع أن يتذكر كلمة دورة مكثفة بسبب ارتباط ذهنه بنظيرتها الانجليزية).

٣- من أخطر ما يمكن أن يؤدي إليه استخدام الكلمات والحروف الأجنبية في الكتابات العربية أن تحاط تلك الكلمات بهالة وأهمية مبالغ فيها، مما يجعل البعض يتوهم بأنها طلاسم من خوارق العلم الذي لا طاقة لنا به، وذلك رغم أنها في أغلب الأحيان ليست كذلك، خصوصا أن الكثير من تلك الكلمات ليست بمصطلحات علمية أصلا. وغالبا لا تترك تلك الهالة أثرا على النفس لمجرد أن القارئ رأى بضعة أحرف أجنبية بضعة مرات، ولكن تكرار رؤية تلك الأحرف على مدار أعوام طوال في عدة كتابات هو ما يجعل النفس والعقل يحيطان تلك الكلمات بهالة يمتد أثرها بعد ذلك إلى تعظيم الغرب والإيمان بعصمته أحيانا، وذلك بسبب أن أغلب تلك الكلمات المقحمة في الكتابات العربية إما انجليزية أو بدرجة أقل فرنسية.

وقد ذكر الإمام الغزالي في بداية كتابه تهافت الفلاسفة أن أحد أسباب ضلال العديد من الفلاسفة من أمة الإسلام " سماعهم أسامي هائلة كسقراط وبقراط وأفلاطون وأرسطاطاليس وأمثالهم". والشاهد هنا أن الأسماء الأجنبية تجعل الكثيرين يعظمون أقوال حامليها ظنا منهم برجاحة عقولهم. والفرق بين عصرنا وعصر الإمام الغزالي أن الأسماء الأجنبية كانت تكتب في الماضي بحروف عربية، بينما تجاوزنا نحن عرب اليوم ذلك بإضافة الحروف الأجنبية.


خاتمة
قد يظن البعض أن الحديث عن الظاهرة المذكورة أعلاه ليس سوى ترف فكري لا أولوية له في زمننا هذا، وهذا ليس بصحيح، وذلك لأن إقحام الكلمات الأجنبية بأحرفها اللاتينية في الكتابات العربية غيض من فيض من ممارسات عديدة تعكس التعلق بالغرب والانقياد له، وبالتالي فإن تلك الظاهرة جزء من بلاء أعم ينبغي التصدي له ومقاومته من أجل المضي قدما في مسيرة الاستقلال التام على جميع الأصعدة، والذي نتمنى أن نراه يتحقق عاجلا قبل آجل، وما ذلك على الله ببعيد.