الأربعاء، 29 فبراير 2012

العربية: أم اللغات أم لغتنا الأم؟


كان السؤال حول نشأة اللغة وما زال من أهم الأسئلة التي حيرت علماء اللغة والمهتمين بها، حيث اختلفوا حول إذا ما كانت نشأة اللغة عن اصطلاح أو توقيف، فذهب بعضهم إلى أن اللغة نشأت من خلال ما اصطلح عليه البشر وتوافقوا من مسميات لما حولهم، وذهب نفر آخر إلى القول بأن اللغة ناشئة عن توقيف، أي أن الله سبحانه وتعالى علمها لآدم عليه السلام. (راجع هذا المقال بعنوان أصل اللغة لمعرفة المزيد حول آراء العلماء عن الموضوع).

وبغض النظر عن كيفية نشأة اللغة فإن ثمة تساؤل آخر يحير العلماء، ألا وهو بأية لغة تحدث آدم عليه السلام؟ فكما فشل المختصون في الوصول إلى جواب شاف عن كيفية نشأة اللغة فإنهم حتى الآن لم يستطيعوا أن يحددوا اللغة التي تكلم بها أبو البشر.

وأيا كانت تلك اللغة فإن ثمة محاولات هنا وهناك لإثبات أن لغة بعينها من اللغات التي نعرفها كانت هي لغة أبينا آدم عليه السلام. وبالتوازي مع تلك المحاولات فإن مجهودات أخرى بذلت وتبذل لإثبات أن لغة بعينها هي أصل اللغات الأخرى التي لا تعدو أن تكون مشتقة منها. ففي عالمنا العربي مثلا نشرت عدة كتب ومقالات تحاول أن تبرهن على أن اللغة العربية هي اللغة التي كان يتخاطب بها آدم عليه السلام وأن كل اللغات الأخرى مشتقة منها.

ومن أمثلة ما نشر حول الموضوع مقال متداول على النت للراحل مصطفى محمود وكتاب بعنوان لغة آدم عطاء أبدي لبني آدم لمحمد رشيد ناصر ذوق وكتاب آخر بعنوان اللغة العربية أصل اللغات كلها لعبد الرحمن البوريني.

وجل هذه المقالات والكتب نتاج لمجهود رائع حاول فيه مؤلفوها أن يتتبعوا الكثير من الكلمات المستخدمة في عدة لغات ومقارنتها بأصلها العربي الذي غالبا ما يحمل ذات المعنى. ومن يطلع على القوائم التي نشرت بهذا الصدد لا يسعه إلا أن يتعجب من تلك الهمة العالية التي تحلى بها هؤلاء الباحثون، لأن تتبع الكلمات يتطلب صبرا ومعرفة عميقة ليس باللغات الأجنبية فقط وإنما باللغة العربية أيضا.

ولكن اللافت للنظر أن جميع تلك الكتابات، على حد علمي، لم تقارن سوى بين اللغة العربية وبضعة لغات تكاد تعد على أصابع اليد الواحدة كالانجليزية والفرنسية والألمانية وأحيانا السنسكريتية لغة الهند القديمة التي تنحدر من نفس الفصيلة التي تنحدر منها غالبية اللغات الأوروبية. وهذا يعني أنه لا يمكننا أن نتستنتج أن اللغة العربية أم اللغات بناء على مقارنتها ببضعة لغات تنتمي إلى نفس الفصيلة.

لكن مؤلفي الكتب المشار إليها أعلاه استنتجوا أن اللغة العربية أصل اللغات ولغة آدم دون إجراء مقارنات مع لغات أخرى، ورغم أن الأستاذ عبد الرحمن البوريني أشار في كتابه إلى أنه لا يمكن أن نقول بأن اللغة العربية أصل لغات العالم أجمع دون مقارنتها بلغات أخرى غير الانجليزية التي ركز عليها في كتابه، إلا أن عنوان كتابه لا يبين ذلك على الإطلاق، فبدلا من أن يسمي كتابه اللغة العربية أصل اللغات كلها، كان الأولى أن يسميه مثلا اللغة العربية أصل اللغة الانجليزية.

والشاهد هنا أننا بصدد مشكلة حقيقية نابعة من موجة التغريب العاتية الذي نعاني منها منذ عشرات السنين، فلقد صرنا اليوم نرى أن العالم ينحصر في العالم الغربي فقط، وأن ما سوى ذلك ليس جديرا بالاهتمام ولا يجب أن يذكر سوى على الهامش، فالاحصائيات التقريبية تقول أن هناك حوالي ستة آلاف لغة تنتمي إلى عدة فصائل، ولا تنتمي اللغات الأوروبية محل المقارنة إلا فصيلة واحدة وهي فصيلة اللغات الهندية الأوروبية التي تضم لغات كالأسبانية والفرنسية والانجليزية والألمانية والروسية والكردية والفارسية والأردية والبنغالية وأغلب لغات الهند عدا الجزء الجنوبي منها.

والسؤال هنا هو: أين ذهبت بقية لغات العالم؟ أين ذهبت لغات شرق وجنوب شرق آسيا وآسيا الوسطى؟ أين ذهبت لغات أفريقيا وأمريكا الشمالية والجنوبية؟ لماذا لا نقارن لغتنا العربية بلغات كالصينية أو الإندونيسية أو التركية أو الفولانية أو الكتشوا؟ أليست هذه لغات حية يتحدث بها بشر ينحدرون من سلالة أبينا آدم عليه السلام؟ أم أن أسلافهم جائوا بمركبات فضائية من كواكب أخرى واستوطنوا الأرض؟

إن من أكثر آثار التغريب الذي عشناه ونعيشه سلبية أن كثيرا منا صار يعتقد أن الانفتاح على الخارج يعني الانفتاح على الغرب وحتى الانقياد له، لدرجة أن أحدنا عندما يقول أنه مسافر إلى الخارج نفهم مباشرة أنه مسافر إلى أوروبا أو أمريكا مثلا. وعندما نتحدث عن المدارس الأجنبية يتبادر إلى الذهن مباشرة دون لبس أن التدريس في تلك المدارس يتم بلغات غربية كالانجليزية والفرنسية مثلا، حتى أضحت بعض المدارس من هذا النوع تسمى في مصر مدارس اللغات والأدق أن تسمى بمدراس اللغات الغربية. وباختصار فإن كلمات مثل الخارج وعالمي ودولي أضحت مرادفة في كثير من الأحيان لكلمة غربي. (راجع ما كتب عن فقه التحيز للاستزادة).

وإذا أسقطنا هذا الكلام على تعلم اللغات في بلداننا لوجدنا أن تعلم اللغات الأجنبية أضحى مرادفا لتعلم اللغات الغربية، إذ تجد أحدنا يتعلم الانجليزية، ثم إذا ما أتقنها وأراد أن يتعلم لغة أخرى عرج على الفرنسية أو الألمانية أو الأسبانية أو الروسية وهكذا دواليك.

ولا ينبغي أن يفهم من كلامي هذا أنني أدعو إلى الكف عن تعلم تلك اللغات أو نبذها، ولكني أدعو ألا نضع البيض كله في سلة واحدة. ومن يراجع عدد من يتعلم منا لغات غير اللغات الغربية لوجدنا أنه لا يذكر، وهذه مشكلة تعكس إلى حد كبير نظرتنا إلى الغرب على أنه المنبع الوحيد الذي ينبغي أن ننهل منه وأن غيره ليس لديه ما يستحق العناء الذي يتكبده متعلم أية لغة اجنبية.

وكما أنني لا أدعو إلى غلق الباب على الغرب فإنني لا أدعو إلى فتحه على مصراعيه أمام الثقافات الأخرى مثلما ما يتردد هذه الأيام عن أهمية تبني تجارب بلدان كاليابان والصين أو غير ذلك من التجارب التي نجحت في بلاد غير غربية، إذ يتوجب علينا أن ندرك أننا قبل أن ننفتح على الخارج من جهاته الأربع فإن علينا أن ننفتح على الداخل وننغمس فيه ونعرف تفاصيله ومداخله ومخارجه ونفهم طبيعته بعمق ووضوح، مما يجعل من اليسير علينا أن نوجد حلولا لمشاكلنا اعتمادا على أنفسنا ولكي تصبح الاستفادة من الخارج على تنوعه على سبيل الإضافة لا الإحلال.

وإذا عدنا إلى الموضوع الأصلي الذي بدأنا به المقال، فإنني أرى بالفعل أن هناك تشابها يصعب إنكاره بين العديد من مفردات اللغة العربية وبعض اللغات الأوروبية كما ورد في الكتابات التي تعنى بهذا الشأن، ولكني لست متأكدا إذا ما كان هذا التشابه يصل إلى حد إثبات أن اللغة العربية أصل اللغة الانجليزية أو الفرنسية أو غيرهما من لغات أوروبا. كما أنني لا يهمني كثيرا إثبات أن اللغة العربية أم اللغات، ليس لكوني أنتقص من شأنها، ولكن لأن اعتزازي بها ينبع من كونها لغتي التي ليس لدي سواها ولأنني لا يمكن أن استبدلها بلغة أخرى لا يمكن بأي حال من الأحوال أن يصل حد إتقاني لها وتمكني منها وشعوري بامتلاك ناصيتها إلى إتقاني وتمكني من اللغة العربية وشعوري بامتلاك ناصيتها.

ولذا فإن تمسكنا بلغتنا لا ينبغي أن ينبني على أساس أنها أقدم اللغات أو أفضلها أو أفصحها أو أكثرها جذورا أو ما إلى ذلك من معايير، لأن ذلك يعني أننا إذا اكتشفنا العكس صار تركها إلى اللغة التي تلبي تلك المعايير مقبولا ومستساغا. والخلاصة أنني إذا سألني أحدهم لماذا أتمسك باللغة العربية، كان جوابي: لأنها لغتي وكفى.