الأحد، 30 سبتمبر 2012

خلدونيات لغوية: ما هي أفضل اللغات؟

اشتهر ابن خلدون بأنه مؤسس علم الاجتماع، حيث تحدث في مقدمته الشهيرة عن العديد من الأمور التي تتصل بقيام الدول والعمران البشري وصعود الحضارات واندثارها. وقد اهتم الباحثون وما زالوا بما كتبه ابن خلدون عن التاريخ والسياسة والاقتصاد والعلوم وغير ذلك من المواضيع التي احتوت عليها المقدمة، إلا أن موضوع اللغة وآراء ابن خلدون فيها لم يحظ بالاهتمام الكافي كما حظيت المواضيع الأخرى. ولذا فسوف نتحدث عن آراء ابن خلدون اللغوية في سلسلة مقالات محاولين شرحها وتقييمها ومعرفة كيفية الاستفادة منها في عصرنا الحالي.
____________________________________________________________

إذا قدر لأحدنا أن يعرف لغات العالم المكتوبة كلها ويقرأ ما يكتبه أهلها عنها لوجد أن كلا منهم يمدح لغته ويعتبرها الأفضل في العالم، ولوجد أن بعضهم ينظر إلى باقي اللغات على أنها أفقر بنية وأقل جمالا وأضعف قدرة على التعبير.

ولا يختلف الأمر كثيرا لدى من يغرمون بلغة غير لغتهم الأصل، حيث نجد أنهم يعددون مناقبها ويسهبون في وصف جمال أصواتها وجزالة ألفاظها، وقد يحسدون أهلها على نشأتهم عليها وامتلاكهم ناصيتها وقدرتهم على التعبير بها دون تلعثم أو تردد.
وسواء كان أحدهم منتميا إلى الفئة الأولى أو الثانية فإن الثابت أنه ليس هناك ثمة معايير محددة يتفق الجميع عليها لاستخدامها في قياس مدى أفضلية لغة على غيرها من لغات العالم الحية أو المنقرضة.


وبما أن الكل يدلي بدلوه عند الحديث عن تلك المعايير فإن من المفيد أن نرى ما قاله ابن خلدون وهو العالم الأريب بخصوص تلك المسألة، والذي نلخصه في نقطتين تشكل كل منهما معيارا:

أولا، حدد ابن خلدون معيارا داخليا يختص ببنية اللغة وهيكلها، إذ ذكر أن تفضيل لغة على غيرها مرتبط بمدى قدرتها على الإيجاز بحيث لا تكون هناك حاجة إلى ألفاظ أخرى للتعبير عن المقاصد. ولذلك اعتبر أن اللغة العربية أفضل اللغات من هذه الناحية "لدلالة غير الكلمات فيها على كثير من المعاني، مثل الحركات التي تعين الفاعل من المفعول من المجرور، أعني المضاف، ومثل الحروف التي تفضي بالأفعال، أي الحركات، إلى الذوات من غير تكلف ألفاظ أخرى. وليس يوجد ذلك إلا في لغة العرب. وأما غيرها من اللغات، فكل معنى أو حال لابد له من ألفاظ تخصه بالدلالة. وكذلك نجد كلام العجم من مخاطباتهم أطول مما نقدره بكلام العرب. و هذا هو معنى قوله صلى الله عليه و سلم: (أوتيت جوامع الكلم و اختصر لي الكلام اختصارا)".

ولتوضيح كلام ابن خلدون دعونا نحلل كلمة "رفعت" في قول رسول الله صلى الله عليه وسلم:(رفعت الأقلام وجفت الصحف)، حيث نجد أنها تشتمل على عدة استخدامات لقواعد اللغة العربية، فهي فعل ماض، مبني للمجهول، متعد، وتائه دالة على أن الفاعل مؤنث. أما أنها فعل ماض فلصيغتها، وأما أن الفعل مبن للمجهول فلحركاته، وأما أنه متعد فلكونه يقبل البناء للمجهول، وأما تائه فلكون جمع التكسير يعامل معاملة المفرد المؤنث. أما كلمة "الأقلام" فإننا نجد أنها اسم معرف لابتدائها بالألف واللام، وأنها جمع تكسير لصيغتها، وأنها فاعل لكون آخر حروفها مضموما.

ويدل هذان المثالان على أن بنية اللغة العربية ذات قدرة عالية على الدمج "لدلالة غير الكلمات فيها على كثير من المعاني"، فكلمة واحدة فقط يمكن أن تشتمل على عدة قواعد للغة، وهو ما دفع ابن خلدون إلى تفضيلها على غيرها من اللغات.

ثانيا، تحدث ابن خلدون عن المحتوى المتاح بلغة ما كمعيار آخر للمفاضلة بين اللغات، حيث ضرب مثالا باللغة العربية التي تمتاز بأنها حاوية القرآن والسنة، وهو ما يجعل لها فضلا على باقي اللغات من هذه الناحية، إذ أنها تعتبر عند المسلمين مفتاحا لدراسة العلوم الشرعية وفهمها فهما دقيقا معمقا.

وكما أن اللغة العربية ذات فضل بالنسبة للمسلم فإنها كانت ذات مكانة في عصر ازدهار الحضارة الإسلامية، حيث كانت تحوي الكثير من العلوم لأن المسلمين في ذلك العصر "تشوفوا إلى علوم الأمم فنقلوها بالترجمة إلى علومهم وأفرغوها في قالب أنظارهم، وجردوها من تلك اللغات الأعجمية إلى لسانهم، وأربوا فيها على مداركهم، وبقيت تلك الدفاتر التي بلغتهم الأعجمية نسيا منسيا وطللا مهجورا وهباء منثورا. وأصبحت العلوم كلها بلغة العرب، ودواوينها المسطرة بخطهم".

ولم يكن الأمر مختلفا في عصر الحضارة اليونانية، حيث كانت اللغة اليونانية ذات فضل لما "كان لليونانيين في علومهم من رسوخ القدم"، حيث كانت الكثير من العلوم مدونة بلغتهم مما أكسبها أهمية وجعل فيها من المحتوى ما يميزها عن باقي لغات العالم في ذلك العصر.


تقييم
بعد أن استنبطنا معياري تفاضل اللغات عند ابن خلدون فإن من اللازم أن نخضعهما للبحث والتدقيق حتى نرى إذا ما كانا يصلحان للمفاضلة بين اللغات، خصوصا أن لدينا في عصرنا هذا الكثير من المعلومات عن لغات العالم المختلفة مما لم يتوفر لدى ابن خلدون ولا لغيره في عصره.

وإذا بدأنا بالمعيار الأول فإننا نجد أن ما قاله ابن خلدون عن بنية اللغة العربية يمثل ملاحظة مهمة يؤكدها ما نعرفه عن لغات العالم اليوم، حيث يصنف علماء اللغة اللغات من حيث بنيتها إلى ثلاثة أنواع:

١- اللغات العازلة، وهي اللغات التي لا تصرف جذورها ولا يضاف إليها حروف جر أو ضمائر أو ما شابه، حيث تبقى الكلمات معزولة عما سماه ابن خلدون بغير الكلمات دون دمج. ومن أمثلتها اللغة الفتنامية ولغات الصين الكبرى مثل المندرينية والكنتونية.

٢- اللغات الإلصاقية، وهي اللغات التي لا تصرف جذورها ولكن يضاف إليها مقاطع على هيئة سوابق أو لواحق قد تكون ضمائرا أو حروف جر أو غير ذلك. ومن أمثلتها اللغة اليابانية والتركية والسواحلية.

٣- اللغات المتصرفة، وهي اللغات التي تصرف جذورها ويلتصق بها من السوابق واللواحق ما قد يكون ضميرا أو حرف جر أو حركة إعراب. ومن أمثلتها اللغة العربية والأسبانية والروسية.

ولا يعني التصنيف أعلاه أن كل لغة تنتمي إما إلى هذا النوع أو ذاك، فالكثير من لغات العالم قد تعتمد في أجزاء منها على العزل وفي أخرى على الإلصاق بينما تصرف أجزاء أخرى. ففي اللغة العربية مثلا نجد أن صيغتي جمعي المذكر السالم والمؤنث السالم يعتمدان على إلصاق اللواحق ".....ون" أو ".....ين" للمذكر و".....ات" للمؤنث، بينما نجد أن جمع التكسير يعتمد على التصريف. وبالتالي فإننا عندما نصنف لغة ما تحت نوع بعينه فإننا نعني أنها يغلب عليها خصائص ذلك النوع.

وبالعودة إلى ما قاله ابن خلدون عن اللغة العربية فإننا نلاحظ أن طبيعتها التصريفية تجعلها لغة إيجاز بامتياز، فبينما تتكون جملة "أنهيت واجباتي" مثلا من كلمتين، نجد أن نظيرتها الانجليزية تتكون من أربع أو خمس كلمات، وذلك لأن اللغة الانجليزية تتفرد عن قريناتها الأوروبية باحتوائها على العديد من خصائص اللغات العازلة.

لكن ابن خلدون وبالرغم من ملاحظته المهمة جانبه الصواب في أمرين، أولهما أنه استشهد بحديث الرسول صلى الله عليه وسلم للتدليل على صحة كلامه رغم أن جوامع الكلم أمر خص الله به نبيه ولم تختص به اللغة العربية، لأن الأمر لو كان كذلك لانتفى الإعجاز عن كلام النبي وصار كل متقن للغة العربية قادرا على الإتيان بجوامع الكلم.

أما الخلل الآخر الذي شاب كلام ابن خلدون فهو أنه قصر الإيجاز على اللغة العربية رغم أن هناك من اللغات المتصرفة ما قد يضاهيها في ذلك. لكننا لا نستطيع لومه على ذلك كثيرا لأنه لم يكن لديه ولا لغيره التصنيف الذي نعرفه اليوم عن لغات العالم، ولذلك اعتمدت ملاحظته على أن  "كلام العجم من مخاطباتهم أطول مما نقدره بكلام العرب"، وهو ما يعني أنه بني كلامه على التقدير وليس على اليقين، وهو معذور في ذلك لأن عصره مختلف عن عصر المعلومات الذي نعيشه نحن اليوم.

ونحن هنا إذ لا ننفي عن اللغة العربية صفة الإيجاز، إلا أننا نقول أن إثبات تفردها بتلك الصفة ينبغي أن يبنى على دراسات مقارنة مع نظيراتها من اللغات المتصرفة حتى نرى إذا ما كانت أكثرهن قدرة على الإيجاز والدمج أم لا. وحتى يقوم علماء اللغة بتلك الدراسات فإننا لا نملك أن نجزم بأن لغة ما أوجز لغات الأرض.

وبهذا نستنتج أن معيار الإيجاز الذي ذكره ابن خلدون يصعب استخدامه لإثبات تفرد لغة ما على غيرها لاشتراك عدة لغات فيه.

أما بالنسبة للمعيار الثاني الذي استنبطناه من المقدمة والخاص بما تحتويه لغة ما من معارف فإن فيه جانبا من الصحة، وذلك لأن حجم ونوعية المعارف المتاحة بلغة ما يجعلان الاستفادة منها أكبر مقارنة باللغات ذات المحتوى المحدود، مما يجعلنا ننظر إلى اللغات ذات المحتوى الكبير كما ونوعا على أنها أفضل من غيرها.

لكن هذا المعيار يصعب تبنيه لقياس تفاضل اللغات على الإطلاق لأنه قد تتميز إحدى اللغات على غيرها في مجال ما بينما تتميز الأخرى في مجال آخر. فعلى سبيل المثال نجد أن اللغة العربية كما ذكرنا آنفا ذات أهمية كبرى في مجال العلوم الشرعية، حيث يكاد يستحيل على دارس تلك العلوم التبحر فيها دون الإلمام بشيء  من العربية، إذ عليه أن يفهم ما يكتب بها على الأقل حتى وإن لم يقدر على التحدث بها بطلاقة. وهي بذلك تتميز من هذا الجانب على غيرها من لغات العالم.

ولا يقتصر معيار المحتوى على العلوم فقط، إذ يتعداها ليشمل كل المعلومات التي يمكن الحصول عليها كتابة أو مشافهة لتحقيق مقصد من المقاصد. لكننا على أية حال لا يمكننا استخدامه لقياس أفضلية لغة على غيرها لنسبيته، حيث يصعب أن نجد لغة تتميز على جميع لغات الأرض في جميع المجالات.

إذن، إذا كان معيارا البنية والمحتوى لا يساعدان على تحديد أفضل اللغات فما المعايير التي يمكنها ذلك؟

الحقيقة أن الإجابة على هذا السؤال صعبة، لكننا نقول أن تفضيل لغة على أخرى مرتبط ارتباطا وثيقا بمدى تحقيقها الأهداف التي وجدت من أجلها، فكما ذكرنا في مقال سابق فإن وظيفة اللغة الأساسية هي تمكين الناس من التواصل، وذلك بالإضافة إلى وظفية الانتماء. ولا يمكن لهاتين الوظيفتين أن تتوفرا في غير اللغة التي نربى عليها، وذلك لأننا إتقاننا إياها يمكننا من تحقيق وظيفة التواصل بفعالية، ولأننا نشعر بالانتماء إليها لأننا نشأنا في عالمها.

وبالتالي فإن أفضل لغة لكل منا هي لغته التي نشأ عليها وانتمى إليها وصارت أداته للفهم والتعبير دون مشاكل. وليس شرطا أن تكون تلك اللغة هي ذاتها التي يلقنها الصغير من أبويه، فقد تكون لغة المحيط مختلفة عن لغة البيت فنجد أن الطفل حين يكبر يشعر بأن لغة المحيط التي نشأ عليها أقرب إليه من لغة أبويه.

لكن هذا لا ينفي أنه من الممكن أن تكون لغة أجنبية أفضل وأنفع لأحدنا من لغته الأصل، فعندما يهاجر أحدهم إلى بلد تختلف لغتها عن لغته تصبح اللغة الجديدة بالنسبة إليه أفضل من لغته لأنها تحقق أغراضه ويستطيع بواسطتها أن يتواصل مع أفراد بلده الجديد فتقل بذلك أهمية لغته وتنحسر بمقدار اندماجه في مجتمعه الجديد وانقطاع صلته ببلده الأصل.

يتضح لنا إذن من هذه المناقشة أن أفضلية لغة على أخرى مسألة نسبية تختلف من مجتمع إلى آخر وأحيانا من فرد إلى آخر، مما يعني أنه من المستحيل القول بأن لغة بعينها أفضل من كل لغات الأرض على الإطلاق، فالبشر مختلفون في احتياجاتهم وما يصلح لفئة ما قد لا يصلح لغيرها.

ولا ينافي هذا في الوقت ذاته أن هناك لغات لها من المميزات ما يجعلها أرفع مكانة من غيرها، لكن هذه المكانة ليست مرتبطة في الأغلب ببنيتها الداخلية بقدر ما هي مرتبطة بعوامل خارجية.

وعلى سبيل المثال فإن اللغة العربية كثيرا ما توصف بأنها غزيرة المفردات دقيقة المعاني، وأنها تتمتع بخاصيتي الاشتقاق والإعراب إلى غير ذلك مما يتعلق ببنيتها اللغوية.

لكن مميزات العربية الحقيقية تكمن خارجها، فهي اللغة الأم لأكثر من ثلاثمائة مليون عربي ينتشرون من الخليج إلى المحيط ويزداد عددهم بمعدلات مرتفعة، مما يمنحها طاقة كامنة يمكن أن تتفجر بمجرد أن يفيق أهلها. وبما أنها لغة القرآن والسنة فإن تعلمها مقصد الكثير من المسلمين من غير العرب، مما يزيد من انتشارها خارج العالم العربي.

وإذا نظرنا إلى اللغات المهمة حول العالم فإننا نلاحظ أن غالبيتها تكتسب أهميتها عالميا أو إقليميا من عدد الناطقين بها.

وقد تسهم عوامل أخرى غير عامل الكثافة العددية في منح لغة ميزة على غيرها، لكن أيا كانت تلك العوامل فإنها ليس لها في الأغلب صلة بالبنية اللغوية لهذه اللغة أو تلك، فالمؤثرات الخارجية عادة ما تكون هي الحاسمة.


خاتمة
من الطبيعي أن نشعر نحن أبناء العربية برفعة لغتنا وجمالها حالنا حال أهل أي لغة أخرى، لكن هذا الشعور لا ينبغي أن يتحول إلى ذريعة لتركها وحيدة في الميدان تصارع على مختلف الجبهات بينما لا نقوم نحن بدور سوى الفرجة والتصفيق الحاد لها ولجمالها وغناها ودقتها دون أن نحرك ساكنا للتمكين لها.

وإذا كان شرع الله وهو ما هو يستلزم العمل الدؤوب للتمكين له، فهل يعقل أن نتعامل مع لغتنا التي هي أدنى مقاما من الشريعة بمنطق "فاذهب أنت وربك فقاتلا إنا هاهنا قاعدون"؟؟

إن مدح العربية والتغزل بها دون استعمالها في جميع مناحي حياتنا لبمثابة علمانية لغوية تجعل من العربية لغة الدين والأدب ومن غيرها لغة العلوم والتقنية، فكما أنه لا يجوز فصل الدين عن الدولة، فإنه لا يجوز فصل العربية عن الطب والهندسة وعلوم الحاسوب بدعوى أنها لا تصلح للتعبير عن تلك العلوم.

لماذا؟

لأن اللغة العربية، كما يقول الأستاذ حسام الخطيب، "حتى  لو كانت -على سبيل الافتراض- أقل غنى في بعض النواحي وأرقى مقدرة في نواحٍ أخرى، فهي أولاً وآخراً لغتنا، وهي نحن ونحن هي، وعلينا أن نتمسك بها دون مراء أو مفاضلة أو مقارنة بغيرها، ذلك أن اللغات أشبه بالأوطان فلا تُعار ولا تُستبدل."