الأربعاء، 31 أكتوبر 2012

خلدونيات لغوية: عن الكلمات ومعانيها


اشتهر ابن خلدون بأنه مؤسس علم الاجتماع، حيث تحدث في مقدمته الشهيرة عن العديد من الأمور التي تتصل بقيام الدول والعمران البشري وصعود الحضارات واندثارها. وقد اهتم الباحثون وما زالوا بما كتبه ابن خلدون عن التاريخ والسياسة والاقتصاد والعلوم وغير ذلك من المواضيع التي احتوت عليها المقدمة، إلا أن موضوع اللغة وآراء ابن خلدون فيها لم يحظ بالاهتمام الكافي كما حظيت المواضيع الأخرى. ولذا فسوف نتحدث عن آراء ابن خلدون اللغوية في سلسلة مقالات محاولين شرحها وتقييمها ومعرفة كيفية الاستفادة منها في عصرنا الحالي.
___________________________________________________

أذكر أنني عندما كنت صغيرا كنت استعجب من ورود كلمة الشارع في كتاب الفقه المدرسي، حيث لم استطع حينذاك أن أفهم سبب استخدام كلمة ظننت مخطئا أنها تعني الطريق الذي نمشي فيه في السياقات التي كنت ألاقيها فيها، حتى أني فكرت أن أسأل أستاذي إذا ما كان ورود الكلمة خطأ مطبعيا. لكني ولله الحمد لم أفعل، ولو فعلت لكنت في زمرة من قال عنهم المتنبي:

وكم من عائب قولا صحيحا **** وآفته من الفهم السقيم

وكما أن الصغار يختلط عليهم معنى كلمة هنا أو هناك، فإن الكبار أيضا قد لا يفهمون المقصود من بعض الكلمات، إذ نجد مثلا أن الكثير من الباحثين في آراء ابن خلدون يختلفون حول استخدامه لكلمة "العرب"، فيقول بعضهم أنه عنى بها العرب بأجمعهم، ويقول البعض الآخر أنه قصد البدو منهم، ويقول فريق ثالث أنه استخدم اللفظ للإشارة إلى العرب عامة أحيانا وإلى الأعراب أحيانا أخرى كل حسب السياق.

ولأن ابن خلدون نفسه تكلم عن موضوع الكلمات ومعانيها في معرض حديثه عن اللغة في مقدمته فإننا سنحاول في هذا المقال أن نعرض كلامه ملخصين إياه في نقطتين، وهما كالتالي:

أولا، عد ابن خلدون الموضوعات اللغوية، أي الكلمات ومعانيها، الأساس الذي تبنى عليه اللغة، فهي أول ما يكتسبه الطفل الذي يسمع " استعمال المفردات في معانيها فيلقنها أولا. ثم يسمع التراكيب بعدها، فيلقنها كذلك". ولأنها الأساس فقد رأى ابن خلدون أنها يجب أن تحل في المرتبة الأولى عند الحديث عن علوم اللسان العربي بدلا عن النحو، والذي رأى علماء العربية وضعه في المرتبة الأولى لأن اللحن طاله أولا وقضى على جل مظاهر الإعراب في اللهجات العامية، وذلك بعكس المعاني التي لم يطلها ذلك القدر الهائل من التغيير.

ولا يعني إعطاء ابن خلدون الكلمات ومعانيها الأسبقية في ترتيب علوم اللسان العربي أنه عدها كافية لإتقان اللغة، فلقد أكد أن الملكة اللسانية، أي التمكن من اللغة، تقاس بمدى القدرة على تركيب الألفاظ تركيبا صحيحا على نحو كلام العرب. لكن هذا التركيب يعتمد بدوره على العلم بالكلمات ومعانيها، وهو العلم الذي سماه علماء العربية علم اللغة.

ولقد رأى ابن خلدون في ثبات الكلمات ومعانيها مقياسا لمعرفة مدى ابتعاد لهجة عن اللغة المتفرعة عنها، فعندما تحدث عن اللهجات العربية في عصره ذكر أن عربية البدو لم تكن تختلف عن الفصحى إلا في مسألة فقدانها حركات الإعراب، أما الغالبية العظمى من الألفاظ فلم "تزل في موضوعاتها الأولى"، أي أن الفارق بين عربية البدو والفصحى في عهده اقتصر على انتشار التسكين واستخدام حركات الإعراب استخداما مغايرا لنحو الفصحى، بينما بقيت غالبية الكلمات ومعانيها على حالها دون أن يطالها أي تغيير.

أما في المناطق الحضرية التي اختلط فيها العرب بالعجم فقد " استعمل كثير من كلام العرب في غير موضوعه عندهم ميلا مع هجنة المستعربين في اصطلاحاتهم المخالفة لصريح العربية"، أي أن عددا لا بأس به من الكلمات العربية تغير معناها في اللهجات الحضرية،  وذلك بالإضافة إلى فقدان الإعراب بالطبع، وهو ما دفع ابن خلدون إلى التأكيد على أن اللهجات الحضرية في زمنه كانت تختلف عن الفصحى وعن عربية البدو، "وهي عن لغة مضر أبعد"، أي أبعد عن الفصحى مقارنة بعربية البدو. (نجد على سبيل المثال أن كلمة اليوم يقابلها "النهارده" في اللهجة المصرية و"الليلة" في اللهجة السودانية).

وكما تكلم ابن خلدون عن اللهجات العربية في زمنه وعلاقتها بالفصحى فإنه قارن أيضا بين اللغتين العربية والحميرية، حيث ذكر أنه " تغيرت عند مضر كثير من موضوعات اللسان الحميري. وتصريف كلماته يشهد بذلك الأنقال الموجودة لدينا. خلافا لمن يحمله القصور على أنهما لغة واحدة ويلتمس إجراء اللغة الحميرية على مقاييس اللغة المضرية وقوانينها، كما يزعم بعضهم في اشتقاق "القيل" في اللسان الحميري أنه من "القول"، وكثير من أشباه هذا. وليس ذلك بصحيح. ولغة حمير لغة أخرى مغايرة للغة مضر في الكثير من أوضاعها وتصاريفها وحركاتها".

والشاهد في هذا الكلام أن العربية لغة مختلفة عن الحميرية لأن معاني كلماتها مختلفة، فكلمة "القيل" مثلا ليس لها صلة من ناحية المعنى بقال، يقول، قولا. وهذا مثال آخر على منهج ابن خلدون والذي بمقتضاه عد الكلمات ومعانيها الركن الركين الذي تقوم عليه اللغة، وهو ذات المنهج الذي جعله يؤكد أن اللحن في معاني الكلمات "أشر من اللحن في الإعراب وأفحش".

ثانيا، أشار ابن خلدون في نهاية فصله المعنون ب"علم اللغة" إلى البعد الاجتماعي للغة، حيث أوضح أن "النقل الذي تثبت به اللغة إنما هو النقل عن العرب أنهم استعملوا هذه الألفاظ لهذه المعاني، لا تقل إنهم وضعوها، لأنه متعذر وبعيد، ولم يعرف لأحد منهم. وكذلك لا تثبت اللغات بقياس ما لم يعرف استعماله على ما عرف استعماله بجامع يشهد باعتباره في الأول".

ويدل هذا الكلام على أن إثبات أن الكلمة الفلانية تعني كذا وكذا يجب أن يكون مبنيا على شواهد على هيئة نصوص شفوية أو مكتوبة، لا على رأي شخصي أو ادعاء لا يعضده اي دليل، وهذا عين ما فعله مثلا الخليل ابن أحمد الفراهيدي في معجمه "العين"، حيث اعتمد في جمع مادته على كلام الفصحاء من العرب الخلص وعلى نصوص القرآن والسنة وما روي عن العرب من شعر ونثر.

كما يدل كلام ابن خلدون على أن القياس ليس بحجة لإثبات صحة تعبير ما في اللغة، فلا يمكن لمدير مثلا أن يأمر موظفيه "بالطاعة الكفيفة" لمجرد اشتراك كلمتي "كفيف" و"أعمى" في المعنى، فالتعبير الذي عرف استعماله بين الناس هو "طاعة عمياء"، ولا يمكن استبداله بقياس ما لم يعرف استعماله عليه.

وقد يمكننا أحيانا استبدال كلمة بأخرى في بعض السياقات دون تغير المعنى، فنقول مثلا "جريدة" عوضا عن "صحيفة"، و"باخرة" بدلا عن "سفينة"، لكن معيار صحة الاستعمال يبقى مدى شيوع استخدام الكلمات عند أصحاب اللغة وإن تعددت الخيارات.


شواهد وفوائد
بعد أن لخصنا أهم نقتطين تحدث عنهما ابن خلدون في مقدمته بخصوص الكلمات ومعانيها سنحاول فيما يلي أن نأتي على ذكر بعض الشواهد لمعرفة مدى مطابقة كلامه للواقع وسنحاول أيضا أن نذكر ما يمكن أن يستفاد من كلامه. ولهذا الغرض نورد النقطتين التاليتين:

أولا، بالنسبة للنقطة الأولى الخاصة بتقديم الكلمات ومعانيها على ما سواها من علوم اللسان العربي نجد أن كلام ابن خلدون فيه قدر كبير من الصحة، فأول ما ينطق به الطفل من اللغة كما ورد آنفا ليس سوى كلمات منفردات لا تركيب بينها، ثم ينتقل بعد أن يكبر قليلا إلى مرحلة الجمل المركبة، مما يدل على توافق ترتيب ابن خلدون مع الواقع.

لكن هذا لا يعني أن معرفة الكلمات ومعانيها كافية، لأنها بمفردها كالأساس بلا بنيان، ولذلك أكد ابن خلدون كما أشرنا سابقا أن " اللغات كلها ملكات شبيهة بالصناعة، إذ هي ملكات في اللسان للعبارة عن المعاني، وجودتها وقصورها بحسب تمام الملكة أو نقصانها. وليس ذلك بالنظر إلى المفردات، وإنما هو بالنظر إلى التراكيب. فإذا حصلت الملكة التامة في تركيب الألفاظ المفردة للتعبير بها عن المعاني المقصودة ومراعاة التأليف الذي يطبق الكلام على مقتضى الحال، بلغ المتكلم حينئد الغاية من إفادة مقصوده للسامع. وهذا هو معنى البلاغة."

ويدل هذا الكلام على أن علوم اللسان الأخرى من صرف ونحو وبلاغة، بالإضافة إلى السياق، لها دور كبير في قدرة المتكلم على التعبير وإفهام السامع، فكما أن هناك معنى لكل كلمة من كلمات جملة مثل "قتلَ الصيادُ النمرَ"، فإن هناك معنى للجملة ككل، وهو مرتبط بعلامات الإعراب التي تبين أن لنا أن الصياد هو القاتل والنمر هو المقتول.

لكن قواعد النحو قد تتغير إلى حد ما دون أن يؤدي ذلك إلى تغير في جوهر اللغة الذي يرتبط بالأساس بالكلمات ومعانيها، فعلى سبيل المثال نجد أن اللهجات الدارجة في البلاد العربية اليوم لا تلتزم بالإعراب وقد يختلف موقع الفعل في بعض جملها عن الفاعل مقارنة بالفصحى، ورغم ذلك تظل عربية لأن الغالبية العظمى من كلماتها عربية محتفظة بمعانيها الأصلية حتى في المناطق الحضرية التي قال ابن خلدون أن لهجاتها في زمنه كانت أبعد عن الفصحى مقارنة بلهجات البدو.

وبالمقابل نجد أن علاقة اللغات ببعضها والقدرة على تصنيفها في هذه الفصيلة أو تلك أمر يعتمد بشكل أساسي على مدى تشابه المفردات الأساسية في كل منها وتطابق أو تقارب معناها رغم ما اعتراها من تغيرات في النطق على مر الزمان. ولذلك نجد أن اللغة العربية تشترك مع لغات أخرى كالولزية وبعض لغات المايا في جنوب المكسيك وغواتيمالا في أن التركيب المبدئي للجمل (الفعلية منها بالنسبة للغة العربية) يبدأ بالفعل ثم الفاعل ثم المفعول به إن وجد، دون أن يكون ذلك دليلا على أن لتلك اللغات أدنى صلة ببعضها، فالاشتراك في بعض قواعد النحو لا يعد دليلا على انحدار مجموعة لغات من لغة واحدة إذا لم يكن هناك أي تشابه بين جزء معتبر من الكلمات.

نستخلص من كل ذلك إذن أن الكلمات، أو الموضوعات اللغوية كما أشار إليها ابن خلدون، هي عماد اللغة وأن تغير الكلمات أو تغير معانيها أعمق ما يمكن أن يعتري اللغة من تغيرات وأكثر ما يفصلها عن ماضيها.

ثانيا، إذا حاولنا أن نلخص كلام ابن خلدون عن علاقة البعد الاجتماعي للغة بالكلمات ومعانيها فإنه يمكننا القول أن مستخدمي اللغة هم من يكسبون الكلمات معانيها، وذلك بتوافقهم على أن كلمة كذا تستخدم لتعني كذا، مما يعني أنه يكاد يستحيل على فرد ما أن يقول أنه حر في استخدام كلمة "كرسي" مثلا ليعني بها "منضدة"، أو كلمة "حقد" ليعني بها "بهجة"، لأنه إن فعل ذلك لن يفهمه أحد ولن يستطيع أن يتواصل مع الآخرين.

ولا ينافي ذلك أن فردا ما أو مجموعة صغيرة من ذوي التأثير في المجتمع قد يستحدثون كلمة فتشيع فيه، فمع بدايات الثورة المصرية مثلا استحدثت كلمة "مليونية" للإشارة إلى مظاهرة ضخمة يشارك فيها مليون متظاهر أو أكثر، وما إن شاعت في المجتمع حتى ثبت معناها لدى الجميع رغم أن أول من استخدمها لم يكن سوى نفر قليل من القائمين على تنظيم المظاهرات.

ولا ينافي كلام ابن خلدون أيضا احتمالية وجود أكثر من معنى لكلمة واحدة، فقد يكون لكلمة ما عدة معان، وقد يكون لأخرى معنى عام يشيع بين عامة الناس ومعنى اصطلاحي يشيع بين فئة منهم، ككلمة الشارع التي وردت في مقدمة هذا المقال.

وبما أن الكلمات ومعانيها نتاج توافق على استعمال كل كلمة للإشارة إلى معنى أو عدد محدد من المعاني فإن ذلك يعني أنه لا أساس ولا صحة لما تزعمه حفنة من المميعين يقدمون لنا في لباس مفكرين من أن كل نص مفتوح على عدد لا متناه من التآويل، وأن كلا منا يمكن أن يفهم أي نص بطريقته دون الالتزام بأي مرجع أو قواعد، فحتى إن احتمل نص أكثر من معنى فإن عدد تفاسيره تظل محدودة، وذلك لأن فتح الباب على مصراعيه أمام شطحات كل مأول يظن نفسه المثقف المستنير فريد عصره من شأنه أن يضيع قيمة اللغة ويمنعها من تأدية وظيفتها الأساسية.

 ولذلك يقول الشيخ محمد المنجد في كتابه (بدعة إعادة فهم النص) أن "هذه الحياة تقوم على ما تواضع عليه الناس من دلالات لغوية يتم التفاهم بينهم بناءً عليها، ولو انتفى ذلك وأصبح كل واحد يفهم معاني النصوص بحسب تأويله الخاص الذي يقتضيه تكوينه الثقافي، فإن النتيجة أن لا يدرك أحد مدلول خطاب الآخر؛ فينعدم التواصل والتعاون" (صفحة ٤٦).

ثمة نقطة أخرى ينبغي الانتباه إليها وهو ما قد يستنتجه البعض من تأكيد ابن خلدون أن الكلمات ومعانيها واللغة عامة هي ما شاع استعماله بين الناس، فقد يرى البعض في ذلك دعوة إلى تقعيد اللهجات الدارجة وتنحية الفصحى لأن اللهجات هي ما درج الناس على استعماله، فكيف يمكن الرد على مثل هذا استنتاج؟

الحقيقة أن قولا كهذا فيه كثير من مجافاة الواقع، فاللهجات كما ذكرنا في مقال سابق ليست لغات مستقلة بذاتها عن الفصحى، إذ ينتمي كل منها إلى جسد اللغة العربية الواحد، بدليل أن الواقع يظهر أن متحدثي اللهجات أقدر على إتقان الفصحى بمخالطتها من غيرهم ممن ربي على لغة غير العربية. 

وحتى وإن زعم أحدهم أن تبني اللهجات الدارجة وإزاحة الفصحى ضرورة لأن العاميات وسيلة أنجع لتمكين الناس من التواصل مع بعضهم فإننا نقول أن فهما كهذا فيه تضييق لمعنى التواصل، فكما أننا نحتاج أن نتواصل مع بعضنا فإننا لا يمكن أن نستغني عن التواصل مع ماضينا وتراثنا، ناهيك عن أن الفصحى لا غنى عنها لكل من أراد فهم القرآن والسنة.

خاتمة
يتناقل البعض على النت روايات مضحكة عن بعض من يستخدمون آيات القرآن في غير محلها بسبب فهم مفرداتها فهما خاطئا، حيث يروى أن خياطا وضع على محله لافتة كتب عليها "وكل شيء فصلناه تفصيلا"، وأن زميلا له في المهنة علق لافتة مماثلة عليها قوله تعالى "نحن نقص عليك أحسن القصص"، وأن سائق حافلة أراد اجتذاب الركاب فكتب على حافلته "يا بني اركب معنا ولا تكن مع الكافرين". وليس بعيدا عن تلك الروايات ما نشاهده في بعض الأفلام المصرية من مشاهد يمسك فيها أحدهم بتلابيب آخر أو يهدده بآلة حادة ليجبره على دفع مال له قائلا "ادفع بالتي هي أحسن"!

وقد يرى البعض في بعض تلك الاستخدامات استغلالا غير مقبول لكلام الله، وقد يقول البعض الآخر أنها دليل على مدى تجذر الدين والقرآن في حياتنا، ولكن بغض النظر عن هذا وذاك فإن تلك الاستخدامات إن كانت نابعة عن جهل بمعاني المفردات الواردة فإنها تظهر مدى أهمية فهم الكلمات ومعانيها في فهم كلام الله عز وجل وفي حياتنا عموما.

ولا تشكل تلك الاستخدامات خطرا يذكر على فهم آيات القرآن لأنه متداول ومتدارس بيننا بكثرة، فحتى من لا يواظبون على قراءته يسمعون آيات منه يستشهد بها خطيب أو يتلوها إمام أو يشرحها عالم، مما يسهل تصحيح الأخطاء الناجمة عن عدم فهم معاني مفردات القرآن.

لكن الحال مختلف بعض الشيء بالنسبة للعديد من كتب علماء العصور الأولى، حيث يحتاج حتى بعض المتعلمين منا إلى إيضاح معاني ودلالات بعض الكلمات الواردة فيها حتى يسهل عليهم قراءتها وفهمها وإنزال المناسب من أفكارها على واقعنا.

وليس شرطا أن تكون تلك الكلمات  مهجورة، فقد نجد أن كثيرا منها مستخدم لدينا ولكن بمعنى مغاير أو بدلالة مختلفة، فعلى سبيل المثال يلاحظ الباحث في اللغة أن العرب أطلقوا كلمة "لسان" على ما نسميه نحن اليوم "لغة"، واصطلحوا على كلمة "لغة" للإشارة إلى ما نسميه نحن اليوم "لهجة". أما علماء اللغة فقد كان علم اللغة لديهم هو ذاك العلم المختص بالكلمات ومعانيها وليس بعلم اللغة عامة كما هو الحال اليوم، وعلم المعاني جزء من علم البلاغة وليس العلم المختص بمعاني الكلمات. والقارئ لمقدمة ابن خلدون يجد أنه استخدم كلمة "لغة" للإشارة إلى اللهجة أحيانا وإلى اللسان أحيانا أخرى كل حسب السياق.

ولذلك فإن من اللازم على الباحثين أن يعملوا على شرح التراث وتيسيره، وأن يخرجوا به من قاعات المؤتمرات إلى الناس، وألا يكون اختلاف بعض مصطلحات أسلافنا عائقا أمام فهم معاني ودلالات بعض كلمات أعمالهم، لأن نفائس تراثنا إن استغلقت علينا صارت لنا بمثابة التماثيل في المتحف، وصرنا لها بمنزلة من قال الله عنهم: "مثل الذين حملوا التوراة ثم لم يحملوها كمثل الحمار يحمل أسفارا".