الثلاثاء، 31 يوليو 2012

خلدونيات لغوية: الكلام المطبوع

اشتهر ابن خلدون بأنه مؤسس علم الاجتماع، حيث تحدث في مقدمته الشهيرة عن العديد من الأمور التي تتصل بقيام الدول والعمران البشري وصعود الحضارات واندثارها. وقد اهتم الباحثون وما زالوا بما كتبه ابن خلدون عن التاريخ والسياسة والاقتصاد والعلوم وغير ذلك من المواضيع التي احتوت عليها المقدمة، إلا أن موضوع اللغة وآراء ابن خلدون فيها لم يحظ بالاهتمام الكافي كما حظيت المواضيع الأخرى. ولذا فسوف نتحدث عن آراء ابن خلدون اللغوية في سلسلة مقالات محاولين شرحها وتقييمها ومعرفة كيفية الاستفادة منها في عصرنا الحالي.
____________________________________________________________




تكلم علماء اللغة في القديم والحديث عن مفهومي الطبع والصنعة وأثرهما على الأدب عامة والشعر خاصة، حيث تعددت تعريفاتهم وآرائهم حول المفهومين وحول ما إذا كانت الصنعة في الشعر محبذة أم لا.

ودون الدخول في تلك التعاريف والآراء فإننا نوجز ونقول أن الطبع في الشعر هو القدرة على قول الشعر المستساغ، أما الصنعة فهي إضافة على ذلك وقد تزيد الشعر جمالا أو تجعل فيه تكلفا.

وقد تكلم ابن خلدون في مقدمته عن الكلام المطبوع والكلام المصنوع، إلا أن اللافت للنظر أنه لم يقصر دورهما على الأدب فقط، وإنما رأى أن دورهما يتجاوز ذلك ليشمل اللغة كلها كما سيرد لاحقا.

وقد أورد ابن خلدون تعريفا للكلام المطبوع في المقدمة حيث ذكر أنه " الكلام الذي كملت طبيعته وسجيته من إفادة مدلوله المقصود منه، لأنه عبارة وخطاب ليس المقصود منه النطق فقط، بل المتكلم يقصد به أن يفيد سامعه ما في ضميره إفادة تامة، ويدل به عليه دلالة وثيقة".

ويبين هذا التعريف أن للكلام المطبوع طبيعة اجتماعية، فهو ليس عبارة عما في نفس المتحدث فقط، وإنما خطاب للمستمع أيضا، مما يستلزم استخدام كلام وثيق الدلالة بحيث لا يختلف معنى الكلام الكامن في ذهن المتحدث عما يقع على أسماع المتلقي. ولكي يتم هذا فإن على المتحدث أن يتكلم بكلام شاع استخدامه في المجتمع واصطلح على صيغته ومعناه ومقام مقاله.

ومثال ذلك أننا إذا أردنا أن نعزي أحدهم لوفاة قريب له فإننا نقول له "عظم الله أجركم"، وهي عبارة من الكلام المطبوع، لأننا إذا قرأناها مجردة من مقام مقالها لما وجدنا فيها ما يدل على الموت أو العزاء أو المواساة، لكنها اكتسبت دلالتها باستخدام الناس لها في مقام التعزية.

ولأن تلك العبارة من الكلام المطبوع فإنه لا يسعنا تغيير مفرداتها بمترادفات أخرى، فإذا استعضنا عنها بعبارات من قبيل "عظم الله جزائكم" أو "زاد المولى ثوابكم" لما فهم المستمع أننا نقصد مواساته لوفاة أحد ذويه، لأن هاتين العبارتين لم يصطلح على أنهما تقالان في مقام مواساة أهل الميت، وإن كانت كلماتهما مرادفة لكلمات العبارة المصطلح عليها.

وقد يقول قائل أن تعريف ابن خلدون للكلام المطبوع كان في سياق حديثه عن الأدب والشعر وأنه ليس له علاقة بعموم اللغة، وهذا ليس بصحيح، وذلك لأن ابن خلدون تكلم في عدة مواضع أخرى في معرض حديثه عن اللغة عن الكلام المطبوع وإن لم يذكره بالإسم في تلك المواضع. وأوضح دليل على ذلك ما ذكره عن الفرق بين كلام الفقهاء ونظم الشعراء، حيث قال:

 "أخبرني صاحبنا الفاضل أبو القاسم بن رضوان، كاتب العلامة بالدولة المرينية، قال: ذاكرت يوما صاحبنا أبا العباس بن شعيب، كاتب السلطان أبي الحسن، وكان المقدم في البصر باللسان لعهده، فأنشدته مطلع قصيدة ابن النحوي، ولم أنسبها له، وهو هذا:

لم أدر حين وقفت بالأطلال            ما الفرق بين جديدها و البال

فقال لي على البديه: هذا شعر فقيه، فقلت له: ومن أين لك ذلك، فقال: من قوله ما الفرق، إذ هي من عبارات الفقهاء و ليست من أساليب كلام العرب، فقلت له: لله أبوك، إنه ابن النحوي".

والشاهد في هذه القصة أن للفقهاء كلاما مطبوعا مختلف عن مطبوع الشعراء، مما يدل على أن الكلام المطبوع لا ينحصر في الأدب فقط.

وقبل أن نفصل في الموضوع فإن علينا ألا ننسى أن ابن خلدون وهو واضع اللبنات الأولى لعلم الاجتماع كانت له نظرة شاملة للغة بصفتها ظاهرة اجتماعية، مما يجعل دور الكلام المطبوع مهما جدا فيها، وذلك لأنه ينطوي على استخدام المتحدث كلاما يفهم المستمع معناه ودلالته فهما كاملا بحيث لا يغني كل على ليلاه.

وللتفصيل نقول أن ابن خلدون أسس لهذه الفكرة عندما تحدث عن كيفية اكتساب اللغة في فصل بعنوان "في أن اللغة ملكة صناعية"، حيث قال:

" إعلم أن اللغات كلها ملكات شبيهة بالصناعة، إذ هي ملكات في اللسان للعبارة عن المعاني، وجودتها وتصورها بحسب تمام الملكة أو نقصانها. وليس ذلك بالنظر إلى المفردات، وإنما هو بالنظر إلى التراكيب. فإذا حصلت الملكة التامة في تركيب الألفاظ المفردة للتعبير بها عن المعاني المقصودة ومراعاة التأليف الذي يطبق الكلام على مقتضى الحال، بلغ المتكلم حينئذ الغاية من إفادة مقصوده للسامع. وهذا هو معنى البلاغة. والملكات لا تحصل إلا بتكرار الأفعال، لأن الفعل يقع أولا وتعود منه للذات صفة، ثم يتكرر، فيكون حالا. ومعنى الحال أنها صفة غير راسخة. ثم يزيد التكرار، فيكون ملكة، أي صفة راسخة. فالمتكلم من العرب حين كانت ملكة اللغة العربية موجودة فيهم يسمع كلام أهل جيله وأساليبهم في مخاطباتهم وكيفية تعبيرهم عن مقاصدهم كما يسمع الصبي استعمال المفردات في معانيها فيلقنها أولا. ثم يسمع التراكيب بعدها، فيلقنها كذلك. ثم لا يزال سماعهم لذلك يتجدد في كل لحظة ومن كل متكلم، واستعماله يتكرر، إلى أن يصير ذلك ملكة وصفة راسخة، ويكون كأحدهم. هكذا تصيرت الألسن واللغات من جيل إلى جيل، وتعلمها العجم والأطفال. وهذا هو معنى ما تقوله العامة من أن اللغة للعرب بالطبع، أي بالملكة الأولى التي أخذت عنهم ولم يأخذوها عن غيرهم".

ومعنى هذا الكلام أن اللغة تكتسب عن طريق السماع والتعرض المتكرر لها أولا، ثم الربط بين أساليب وكيفيات التعبير من جهة، والمقاصد والمقامات التي تستخدم فيها تلك الأساليب والكيفيات من جهة أخرى، إلى أن تنطبع اللغة في ذهن المتلقي فتصبح سليقة لديه.

ومن المهم هنا أن نشير إلى ما قاله ابن خلدون عن أن ملكة اللغة ليست في اكتساب المفردات، وإنما في اكتساب التراكيب، بمعنى أننا حين نكتسب اللغة في الصغر نبدأ باكتساب كلمات متفرقة، ثم مع ازدياد التعرض للغة نبدأ باكتساب تراكيب بأكملها ونربط بين كل تركيب و"مقتضى الحال" أو المقام الذي يستخدم فيه.

ومن الواضح أن كلام ابن خلدون يعنى أننا بعد تخطي مرحلة المفردات نكتسب اللغة بالجملة وليس بالتجزئة، إذ أن كثيرا مما نكتسبه ليس مكونا من كلمات بمفردها وإنما من تعابير وجمل كاملة وأجزاء جمل تشكل العمود الفقري للغة الذي يستخدمه أفراد المجتمع ويتداولونه ككلام مطبوع ثابت إلى حد كبير وله معان محددة تستخدم في مقامات محددة.

ولمزيد من التوضيح دعونا ننظر في الأمثلة التالية:


١- يعد برج خليفة أعلى ناطحة ______ في العالم.
٢- _______ الجيش السوري الحر على العديد من الأسلحة بعد أن _______ مجموعة من جنود الجيش النظامي بالفرار.
٣- تعاني العديد من الدول الفقيرة من استشراء الفساد وسوء توزيع ________، فبينما تعيش قلة من الأغنياء في ثراء _______، يعاني الكثير من أفراد الشعب من فقر _______.

إذا طلبنا من أي متحدث بالعربية أن يملأ الفراغات أعلاه فإن إجابته ستكون كالتالي:
١- سحاب
٢- استولى، لاذت
٣- الثروة، فاحش، مدقع

وإذا عرضنا الجمل الثلاث على ملايين المتحدثين بالعربية فإن إجاباتهم لن تختلف غالبا عن بعضها، وذلك لأن المتصاحبات التي تحتوي عليها تلك الجمل شائعة في اللغة العربية الفصحى ومألوفة لمتحدثيها لدرجة أنهم يستخدمونها تلقائيا دون تفكير، حيث أنها انطبعت في أذهانهم جملة واحدة وليست كلمات منفصلات يركبونها عند الحديث. (راجع معجم المتصاحبات للمزيد من الألفاظ المشتركة).

ولأن اللغة مكتسبة وليست موضوعة فإن عمادها الكلام المطبوع لا المصنوع، ولهذا يؤكد ابن خلدون على "أن النقل الذي تثبت به اللغة، إنما هو النقل عن العرب أنهم استعملوا هذه الألفاظ لهذه المعاني، لا تقل إنهم وضعوها لأنه متعذر وبعيد، ولم يعرف لأحد منهم".

وبما أن جل اللغة يثبت بالنقل، فإن جلها لا يثبت بالقياس، إذ لا يمكن أن نقيس "ما لم نعلم استعماله على ما عرف استعماله" كما يبين ابن خلدون. وهذا يعني أننا لا يمكن أن نقول "ناطحة سحب" بدلا من "ناطحة سحاب"، وذلك رغم أن كلمة "سحابة" تجمع على "سحاب" و"سحب"، لا لشيء سوى أن الناس لا يقولون "ناطحة سحب".

ولهذا امتدح ابن خلدون علماء العربية ومعلميها في الأندلس، وذكر أنهم أقدر على اكتساب الفصحى وتعليمها من سواهم " لقيامهم فيها على شواهد العرب وأمثالهم والتفقه في الكثير من التراكيب في مجالس تعليمهم"، أي أنهم اعتمدوا في اكتسابها على النقل لا القياس.

أما أهل المغرب وإفريقية وغيرهم فقد انتقدهم ابن خلدون لأنهم اعتمدواعلى القياس " فأجروا صناعة العربية مجرى العلوم بحثاً وقطعوا النظر في التفقه في كلام العرب إلا أن أعربوا شاهداً أو رجحوا مذهباً من جهة الإقتضاء الذهني لا من جهة محامل اللسان وتراكيبه. فأصبحت صناعة العربية كأنها من جملة قوانين المنطق العقلية أو الجدل وبعدت عن مناحي اللسان وملكته".

وباختصار فإنه إذا كان جل اللغة يثبت بالنقل لا بالقياس فإن هذا يعني أن للكلام المطبوع دورا حيويا فيها، وأن اكتساب المتلقي اللغة يعني اكتساب ما يتناقله متحدثوها من كلام بمخالطته حتى ينطبع في ذهنه كما انطبع في أذهان الآخرين وصار كلاما مطبوعا.

شواهد وفوائد
إذا أردنا أن نعدد وظائف الكلام المطبوع فقد يتحول هذا المقال إلى كتاب، ولذلك فإننا سنركز على ثلاث نقاط فقط، وهي كالتالي:

أولا، يساهم الكلام المطبوع في تيسير التواصل بين الناس وتمكينهم من فهم بعضهم دون مشقة، وذلك لأن لكل تعبير متدوال بين الناس دلالة محددة متصلة بمقام استخدامه، مما يمكن المستمع من فهم كلام المتكلم دون عناء، لأنه قد سمع جل التعابير التي يستخدمها المتكلم مئات المرات من قبل وانطبعت في ذهنه صيغها ودلالاتها ومقاماتها.

وعلى سيبل المثال فعندما يقول أحدهم أنه اشترى سيارة مثلا "من عرق جبينه"، فإنه يستخدم تلك الصيغة المحددة ليؤكد أنه جمع المال اللازم لشراء السيارة معتمدا على نفسه دون مساعدة أو تفضل من أحد، وأنه جمع هذا المال عن طريق الكسب الحلال، وأنه اجتهد وكد لتحصيله.

ومن نافلة القول أن بعضنا يزاول أعمالا لا تتطلب أن يفرز المرء نقطة عرق واحدة لإنجازها، وقد يزاول البعض الآخر أعمالا تتطلب مجهودا بدنيا شاقا يؤدي إلى إفراز العرق من جميع أعضاء الجسم وليس من الجبين فقط، ورغم هذا وذاك فإن الجميع يقولون أنهم يكسبون لقمتهم من عرق جبينهم بغض النظر عن كمية العرق المفرز ومواضع إفرازه. كما أننا لا نكاد نسمع عاملا مثلا يقول أنه يكسب ماله "من جهد عضلاته"، ولا مديرا يقول أنه يكسب ماله "من جهد ذهنه"، فالجميع يكسب ماله "من عرق جبينه"، وهو تعبير محدد الصيغة والدلالة والمقام، مما يسهل على الناس فهم بعضهم دون عناء.

ثانيا، يساهم الكلام المطبوع في الحفاظ على وحدة اللغة والحد من تغيرها عبر الأجيال، وذلك لأنه كلام ثابت إلى حد كبير يشكل الهيكل الأساسي للغة ويستعمله متحدثوها تلقائيا غير معتمدين على استحضار قواعد اللغة لتركيب أجزائه.

وإذا كان الاعتماد على الكلام المصنوع أكبر من الاعتماد على المطبوع لوجدنا اختلافا كبيرا داخل اللغة حتى وإن لم تختلف قواعدها، فكما رأينا في الأمثلة المذكورة آنفا فإن معرفتنا بقواعد اللغة وكلماتها تمكننا من الإتيان بتعابير أكثر بكثير من التعابير المستخدمة في كلامنا اليومي دون أن نخالف تلك القواعد، لكننا لا نفعل ذلك ونعتمد على التعابير الشائعة مما يمكننا من الحفاظ على وحدة جزء كبير من اللغة.

وقد أشار ابن خلدون إلى هذا المعنى حين ذكر أن "المتكلم بلسان العرب و البليغ فيه يتحرى الهيئة المفيدة لذلك على أساليب العرب وأنحاء مخاطباتهم وينظم الكلام على ذلك الوجه جهده فإذا اتصلت مقاماته بمخالطة كلام العرب حصلت له الملكة في نظم الكلام على ذلك الوجه وسهل عليه أمر التركيب حيث لا يكاد ينحو فيه غير منحى البلاغة التي للعرب وإن سمع تركيباً غير جار على ذلك المنحى مجه ونبا عنه سمعه بأدنى فكر، بل وبغير فكر".

ويضيف ابن خلدون قائلا أن الضليع في كلام العرب "إذا عرض عليه الكلام حائدا عن أسلوب العرب وبلاغتهم في نظم كلامهم أعرض عنه ومجه وعلم أنه ليس من كلام العرب الذين مارس كلامهم. وربما يعجز عن الاحتجاج لذلك كما تصنع أهل القوانين النحوية والبيانية فإن ذلك استدلال بما حصل من القوانين المفادة بالاستقراء".

ويدل هذا الكلام على أن إتقان الفصحى يقوم على التمكن من مطبوعها أكثر من التبحر في قواعدها، لأن القدرة على استعمال القواعد قد تمكننا من الكلام بلغة عربية خالية من الأخطاء النحوية ولكنها تختلف عن الفصحى التي عهدناها. وكثيرا ما نلاحظ ذلك في بعض الكلام المترجم من لغة أجنبية إلى العربية، فرغم كونه عربيا موافقا لقواعد النحو فإننا نحس فيه غرابة وبعدا عن العربية المعهودة لنا، وذلك لأن بعض المترجمين لا يستطيعون التخلص من قيود اللغة الأجنبية، مما يجعل ترجماتهم عربية لكنها ذات كلام مصنوع لا مطبوع.

ثالثا، بالرغم من أن الكلام المطبوع يشكل عماد اللغة وركنها الركين إلا أن هذا لا يعني أن كل كلامنا مطبوع، فقد نتكلم بكلام مصنوع، إلا أن مدى قربه من أساليب الكلام المطبوع هو ما يحدد مدى تقبلنا له على أنه من كلام العرب، وإن لم يقل به أحد قبلنا.

وقد قرر ابن خلدون ذلك حين أشار إلى أنه إذا أراد أحدهم إتقان الفصحى فإن ذلك يكون "بكثرة الحفظ من كلام العرب حتى يرتسم في خياله المنوال الذي نسجوا عليه تراكيبهم فينسج هو عليه ويتنزل بذلك منزلة من نشأ معهم وخالط عباراتهم في كلامهم حتى حصلت له الملكة المستقرة في العبارة عن المقاصد على نحو كلامهم". وأضاف أيضا في موضع آخر أن "على قدر المحفوظ وكثرة الاستعمال"، أي كثرة استعمال الكلام الفصيح المكتسب، "تكون جودة المقول المصنوع نظما ونثرا".

ولذلك فإن من أهم وظائف الكلام المطبوع أنه يشكل القاعدة التي يمكن أن نبني عليها كلامنا المصنوع، إذ هو كما ذكر ابن خلدون المنوال الذي ننسج عليه، والذي يساهم بدوره في الحفاظ على نسق اللغة ليكون لدينا بذلك مصنوعا يمكن أن نسميه بالمصنوع المتصل، وهو ما بني على نهج الكلام المطبوع، وعكسه المصنوع المنفصل، وهو ما أسس بنيانه على فراغ فبدا غريبا عن روح اللغة وإن كانت أجزائه منها.

خاتمة
بالرغم من أن أغلب الحديث في هذا المقال قد دار حول الكلام المطبوع في الفصحى، إلا أن هذا لا يعني أنه مقصور عليها، فلكل لهجة مطبوعها، وقد تشترك بعض اللهجات في كلامها المطبوع مع اختلاف في النطق، وقد يتلاقى بعض مطبوع اللهجات مع بعض مطبوع الفصحى كقولنا "من عرق جبينه"، مع اختلاف في النطق طبعا.

وحتى داخل الفصحى ذاتها نلحظ أن هناك اختلافا بين لغة الصحافة، ولغة العلوم، ولغة القانون، ولغة الأدب، ولكل منها مطبوعها الذي يميزها.

ثمة نقطة أخرى لا ينبغي إغفالها وهي أن الكلام المطبوع رغم كونه ثابت الصيغ إلا أن تصاريف أجزائه قد تختلف، فقد نقول من عرق جبيني وجبينه وجبينها وما إلى ذلك من تصاريف. وبالتالي فإن أجزاء الكلام المطبوع ثابتة في أصلها مختلفة أحيانا في تصاريفها.

وبناء على كل ما سبق فإننا يمكن أن نعرف الكلام المطبوع على أنه:

الكلام المتداول بين الناس أو مجموعة منهم بصيغ ثابتة أو شبه ثابتة تستخدم في مقامات بعينها بدلالات محددة.

وإذا استشكل عليك عزيزي القارئ هذا التعريف فإن من الممكن أن نجمل ونقول أن الكلام المطبوع في اللغة العربية هو الكلام العربي الذي يتكلم به العرب، وعكسه ليس الكلام الأعجمي، وإنما الكلام العربي الغريب عن كلام العرب، وهو المصنوع المنفصل. وبين هذا وذاك كلام مصنوع متصل بنسق الكلام المطبوع قريب منه منسوج على منواله.

كم بين قوم قد احتالوا لمــــــنطقهم .... وآخرين عـــلى إعرابهم طبعــــــــــوا
وبيـــن قوم رأوا شيئاً معــــــــاينة ..... وبيــن قوم رووا بعض الذي سمــعوا