الجمعة، 31 أغسطس 2012

خلدونيات لغوية: عن وظائف اللغة

اشتهر ابن خلدون بأنه مؤسس علم الاجتماع، حيث تحدث في مقدمته الشهيرة عن العديد من الأمور التي تتصل بقيام الدول والعمران البشري وصعود الحضارات واندثارها. وقد اهتم الباحثون وما زالوا بما كتبه ابن خلدون عن التاريخ والسياسة والاقتصاد والعلوم وغير ذلك من المواضيع التي احتوت عليها المقدمة، إلا أن موضوع اللغة وآراء ابن خلدون فيها لم يحظ بالاهتمام الكافي كما حظيت المواضيع الأخرى. ولذا فسوف نتحدث عن آراء ابن خلدون اللغوية في سلسلة مقالات محاولين شرحها وتقييمها ومعرفة كيفية الاستفادة منها في عصرنا الحالي.
____________________________________________________________


كانت اللغة وما زالت من أجل النعم التي أنعم الله بها علينا، فهي من أول ما علمه الله أبانا آدم عليه السلام، إذ ألهمه إياها حتى قبل خلق أمنا حواء وقبل نزولهما الأرض، مما يدل على أن بدون لغة لا تستقيم حياة.

وكما علم الله آدم الأسماء كلها، فإنه سبحانه وتعالى وضع في الأطفال قدرة كامنة تمكنهم من اكتساب اللغة دون جهد يذكر، ودون تلقين من الكبار. وإذا أخذنا اتساع اللغة وتشعبها وتعدد مكوناتها بعين الاعتبار، فإن تمكن الأطفال من اللغة بمفردهم ورغم حداثة سنهم يعد نعمة عظيمة، وهو في ذات الوقت يدل أيضا على أن اللغة مقوم أساسي من مقومات الحياة.

وإذا كانت اللغة من الأهمية بمكان أن كانت من أول ما علمه الله عز وجل آدم حتى قبل بدء الحياة على الأرض، وإذا كانت حكمته جل في علاه تقتضي اكتساب الأطفال لها دون مجهود يذكر قبل بلوغهم سن الرشد، فإن ذلك كله يدل على أن للغة أهمية كبرى في حياتنا، وهو ما يدفعنا إلى طرح السؤال التالي:

ما هي وظيفة اللغة؟

أجاب ابن خلدون على السؤال في عدة مواضع من مقدمته، حيث ذكر ثلاث وظائف رئيسية للغة يمكن تلخصيها في النقاط التالية:

أولا، اعتبر ابن خلدون أن من أهم وظائف اللغة أنها وسيلة للفهم، إذ بين أن "الألفاظ واللغات وسائط وحجب بين الضمائر، وروابط وختام بين المعاني. ولابد في اقتناص تلك المعاني من ألفاظها بمعرفة دلالاتها اللغوية عليها، وجودة الملكة للناظر فيها، وإلا فيعتاص عليه اقتناصها زيادة على ما يكون في مباحثها الذهنية من الاعتياص. وإذا كانت ملكته في تلك الدلالات راسخة بحيث تتبادر المعاني إلى ذهنه من تلك الألفاظ عند استعمالها، شأن البديهي والجبلي، زال ذاك الحجاب بالجملة بين المعاني والفهم أو خف، ولم يبق إلا معاناة ما في المعاني من المباحث فقط".

من الواضح هنا أن ابن خلدون يرى أن إحدى وظائف اللغة الأساسية هي أنها تمكننا من فهم ما يقوله الآخرون، ولكي يتم هذا فإن من الضروري أن تكون ملكتنا اللغوية مستحكمة راسخة بحيث نفهم معاني ودلالات الكلمات التي نقرأها ونسمعها مباشرة فلا يكون بيننا وبينها حجاب لغوي.

ولم يفت ابن خلدون أن يفرق بين فهم المعاني والدلالات وفهم مضمونها، فحتى عندما لا يكون هناك حجاب لغوي بيننا وبين ما نريد فهمه فإنه يتبقى لنا "معاناة ما في المعاني من المباحث"، وهو المضمون، فاللغة شكل ومحتواها مضمون، واستيعاب الشكل لا يعني بالضرورة فهم مضمونه، ولذلك فإننا قد نقرأ شيئا ما بلغتنا ولا نفهمه، وقد يفهمه بعضنا ولا يفهمه البعض الآخر رغم تساوي قدراتنا اللغوية. لكننا على أية حال لا يمكن أن نفهم شيئا فهما معتبرا دون لغة.

ثانيا، كما أن اللغة وسيلة للفهم، فإنها بالضرورة وسيلة للتعبير، إذ لا استقبال بلا إرسال، ولذلك أوضح ابن خلدون أن " أن اللغة في المتعارف هي عبارة المتكلم عن مقصوده. وتلك العبارة فعل لساني ناشئ عن القصد بإفادة الكلام. فلا بد أن تصير ملكة متقررة في العضو الفاعل لها، وهو اللسان".

نرى هنا أن ابن خلدون قرن تعريف اللغة بوظيفتها كأداة للتعبير رغم أن لها أكثر من وظيفة، مما يدل على أن هذه الوظيفة يمكن أن تعتبر أهم وظائف اللغة على الإطلاق، إذ أن قدرة الإنسان على التعبير عن مقصوده تعني أنه يمتلك أداة تمكنه من أن يكون فاعلا حرا بدلا من أن يكون متلقيا فقط، وهذا يعني أن التعبيرأعلى مرتبة من الفهم. ولذلك يستحيل أن نجد شخصا يتقن الحديث بلغة دون أن يفهمها، بينما قد نجد من يفهم لغة دون أن يحسن التعبير بها، وربما يكون هذا سببا آخرا لقرن ابن خلدون تعريف اللغة بوظيفة التعبير، إذ تستلزم هذه الوظيفة بالضرورة تخطي مرحلة الفهم، فيكون بذلك تعريف اللغة كوسيلة للتعبير شاملا إياها وسيلة للفهم.

ويتضح لنا من كلام ابن خلدون أمر مهم آخر، وهو أن اللغة وسيلة لتعبير المتكلم عن مقصوده، وكلمة "مقصوده" هنا ذات دلالة هامة، إذ ليس شرطا أن يكون ما في القلب على اللسان، وليس بالضرورة أن يكون التعبير عما في دواخل المرء، فقد يقول أحدنا كلاما قاصدا به إيصال رسالة تختلف عما يكمن في داوخله، كما نفعل عند التورية والمجاملة مثلا، وقد يتطابق الكلام مع ما يجول بدواخل المتحدث. وأيا كان الحال فإن اللغة تمكننا من التعبير عما نقصد قوله وإيصاله إلى أسماع المتلقين بغض النظر عما يدور في عقولنا أو قلوبنا، فالمعاني كما يذكر ابن خلدون في الضمائر، أما اللغة  ففي اللسان، وذلك هو التعبير.

وبالعودة إلى العلاقة بين وظيفتي الفهم والتعبير فإننا نقول أنهما عنصران متكاملان يشكلان بالإضافة إلى المحتوى عناصر عملية الاتصال الثلاثة. وإذا دمجنا الوظيفتين معا فإن بوسعنا القول أن الوظيفة الأولى للغة هي التواصل بين البشر، إلا أن من الأدق فصل وظيفة الفهم عن وظيفة التعبير لأننا في بعض الأحيان نستخدم اللغة للفهم دون التعبير.

ثالثا، كما أن اللغة وسيلة تواصل فإنها أيضا وسيلة انتماء، حيث أشار ابن خلدون إلى هذه الوظيفة حين تكلم عن نطق القاف في اللهجات الدارجة في زمنه، فقد كان أهل الحضر ينطقونها كما تنطق في الفصحى، أما أهل البادية فكانوا " يجيئون بها متوسطة بين الكاف والقاف"، وهو نطق شائع في يومنا هذا في اللهجات العامية في أغلب دول الخليج واليمن والعراق وأجزاء من بلاد الشام وصعيد مصر والسودان وليبيا وأجزاء من المغرب العربي.

ويؤكد ابن خلدون أن نطق القاف البدوية "موجود للجيل أجمع حيث كانوا من غرب أو شرق"، أي لكل سكان البوادي بغض النظر عن أماكن سكناهم، "حتى صار ذلك علامة عليهم من بين الأمم والأجيال ومختصا بهم لا يشاركهم فيه غيرهم. حتى إن من يريد التعرب والانتساب إلى الجيل والدخول فيه يحاكيهم في النطق بها. وعندهم أنه إنما يتميز العربي الصريح من الدخيل في العروبية والحضري بالنطق بهذه القاف".

والشاهد في كلام ابن خلدون أن نطق القاف في زمنه كان سبيلا إلى معرفة إذا ما كان المتكلم من أهل المدن أو البادية، لدرجة أن من كان يريد أن يظهر انتمائه إلى أهل البادية كان "يحاكيهم في النطق بها"، مما يشير إلى أن اللغة وسيلة انتماء وليست وسيلة تواصل فحسب.

وكما تحدث ابن خلدون عن وظائف اللغة فإنه أشار إلى بعض العوائق التي يمكن أن تقف عقبة أمام استخدام اللغة استخداما ناجعا، ونذكر منها العوائق الثلاثة الآتية:

أولا، بالنسبة لوظيفة الفهم تكلم ابن خلدون عن التعلم بلغة أجنبية وما يسببه من صعوبات تجعل من العسير على طالب العلم فهم العلوم فهما معمقا، وقد ناقش ذلك في فصل عنونه ﺑـ "في أن العجمة إذا سبقت إلى اللسان قصرت بصاحبها في تحصيل العلوم عن أهل اللسان العربي"، وذكر فيه أن طالب العلم يجب أن يكون مستوعبا لدلالات الكلمات المستخدمة في تخصصه استيعابا عميقا، وهو ما لا يتوفر غالبا لمن ربى على لغة غير تلك التي يتلقى بها علومه، مما يعيق فهم الطالب للعلوم مقارنة بمن يطلبها من أهل اللغة. وكما ذكرنا آنفا فإن فهم معاني ودلالات الكلم شرط أساسي لانكشاف الحجاب اللغوي حتى يتفرغ الطالب لفهم مضمون الكلام.

العائق الثاني الذي ينبغي أن نشير إليه مرتبط بوظيفة التعبير، حيث أكد ابن خلدون أن قدرتنا على التعبير مرتبطة ارتباطا وثيقا بمخالطة اللغة وليس بدراسة قواعدها، فالعربي مثلا لا يستطيع إتقان التعبير بالفصحى دون قراءة وسماع وحفظ الكثير من كلام العرب الفصيح حتى يترسخ في ذهنه كلامهم المطبوع، فيعبر بعد ذلك عن مقصوده على منوال كلامهم دون الحاجة إلى استحضار قواعد اللغة التي يقول ابن خلدون عن معرفتها أنها معرفة بكيفية لا نفس كيفية. والشاهد هنا أن مما يعيق الإنسان عن التعبير السليم باللغة الفصحى التركيز على قواعدها وقوانينها وإهمال جسدها الذي استنبطت منها تلك القواعد والقوانين.

العائق الثالث الذي نذكره هنا يمكن أن يؤثر بالسلب على القدرة على كل من التعبير والفهم، وهو ما يسميه علماء العربية بالتقعر، وهو التصنع وتكلف الكلام وإقحام أدوات الشعر فيه من وزن وقافية وسجع دون مراعاة مقام الكلام. وقد ذكر ابن خلدون أن التقعر انتشر في عصره في المخاطبات السلطانية رغم أن "جلال السلطان، وخطاب الجمهور عن الملوك بالترغيب والترهيب ينافي ذلك ويباينه". وهذا يعني أن التقعر يعيق الكاتب عن التعبير عن مقصوده بوضوح، مما يعيق المتلقي بالتالي عن فهم الرسالة، فلا يتحقق بذلك أحد أهم وظائف اللغة وهو التواصل بين الناس.


تطبيقات معاصرة
قد يقول البعض محقا أن وظائف اللغة التي استنبطناها من مقدمة ابن خلدون معروفة لدى الجميع، إذ من البديهي أن تكون اللغة وسيلة تواصل ووسيلة انتماء، لكننا إذا نظرنا إلى عالمنا اليوم فإننا سنجد العديد من العوائق التي تحد من قدرتنا على استخدام اللغة لتحقيق ما وجدت من أجله.

فعلى سبيل المثال نلاحظ أن التعلم بلغة أجنبية في بعض التخصصات العلمية وبعض الجامعات في دولنا العربية من أكثر ما يعيق الطلاب عن فهم العلوم فهما معمقا، وهم إن فهموها فإن فهمهم لها غالبا ما يكون أقل درجة من فهم أقرانهم ممن كتبت تلك العلوم بلغتهم. وهذا أحد أسباب عدم ازدهار العلوم لدينا، فلكي تزدهر العلوم في بلد ما فإنها يجب أن تكون متاحة للدراسة والفهم أمام أكبر عدد من الطلاب الذين من المفترض أن يفرزوا صفوة من العلماء تساعد على تقدم البلاد علميا. أما ما يحدث لدينا فهو أن صفوة المتبحرين في العلوم، الطبيعية منها على وجه الخصوص، محدودة العدد ضعيفة الأثر، وهي مكونة ممن تمكنوا من التغلب على حجاب اللغة الأجنبية وعلى حجاب المضمون. والمقارنة بين من يتعلم بلغته وقرينه الذي يتعلم بلغة غيره كالمقارنة بين مجموعة من العدائين تجري على طريق منبسط تنافسها مجموعة تجري على طريق جبلي وعر، فيا ترى كم من عدائي المجموعة الثانية سيصل إلى هدفه؟

وإذا افترضنا أن طلاب العلم قادرون على استيعاب العلوم بلغة أجنبية، فماذا عن قدرتهم على نشر تلك العلوم بين عموم أفراد الشعب، وهل هم قاردون على شرح علومهم والتعبير عن مقصودهم دون اللجوء إلى ما ألفوه من كلمات أجنبية؟

وعلى سبيل المثال فقد شاهد الكثيرون منا برنامج نجوم العلوم الذي أطلق لدعم شباب المبتكرين العرب، وكان من اللافت للانتباه أن كثيرا من المتسابقين وأعضاء لجنة التحكيم كانوا يستخدمون العديد من الكلمات الأجنبية عند حديثهم عن الابتكارات المقدمة لدرجة أن القائمين على البرنامج اضطروا إلى ترجمة أجزاء من الحديث ترجمة مكتوبة ظهرت أسفل الشاشة حتى يستطيع المشاهد العربي فهم ما يقال في برنامج من المفترض أنه عربي. أما المشاهد الأمي فلا عزاء له.

وإذا تركنا عوائق التواصل جانبا وانتقلنا إلى الحديث حول وظيفة الانتماء فإننا نجد أنها لا تقل أهمية عن وظيفة التواصل، حيث يمكن  أن ينبئنا نطق معين لبعض الحروف أو الكلمات أو استخدام مفردات بعينها ليس فقط عن بلد المتحدث ولكن أيضا عن طبقته الاجتماعية ومستوى تعليمه ومصادر ثقافته وما إلى ذلك مما يميز الناس عن بعضهم.

والمفترض أن تكون اللغة مظهر انتماء لا وسيلة له، لكننا حين ننظر إلى الواقع نجد أننا نتعمد في كثير من الأحيان الحديث بأسلوب معين مستخدمين عناصر معينة من اللغة لكي نُظهر أننا ننتمي إلى فئة بعينها، أو أننا لا ننتمي إلى جماعة ما، فالشباب مثلا في كثير من البلاد يستخدمون اللغة بطريقة معينة ليظهروا لأقرانهم انتمائهم لفئتهم العمرية. أما أفراد الطبقة الغنية فيستعمل كثير منهم كلاما يختلف بعض الشيء عن كلام باقي أفراد المجتمع طلبا للتمايز.

وليس من المفترض أن يحدث تداخل بين وظيفة التواصل من جهة ووظيفة الانتماء من جهة أخرى، فالفقير يفهم كلام الأغنياء رغم اختلافه عن كلامه لأنه، أي كلام الأغنياء، ليس سوى استخدام مغاير بعض الشيء لنفس اللغة. أما في البلاد المصابة بانفصام لغوي فإننا نجد أن هناك تداخل، بل قل تضاد، بين الوظفتين، حيث يشيع بين أبناء الطبقة الميسورة في تلك البلاد استخدام لغة أجنبية مختلفة عن لغة البلاد الشائعة بين أفراد الشعب، فيكون استخدام تلك اللغة الأجنبية بين علية القوم عقبة أمام قدرة عموم الشعب على التواصل الفعال معهم، ويكون هذا التمايز المتطرف عائقا أمام استخدام اللغة لتحقيق وظيفتها الأهم وهي التواصل بين الناس.

ومن مظاهر فرض التمايز اللغوي المعيق للتواصل بين الناس في عصرنا الحالي ما نلاحظه من مجهودات حثيثة يقوم بها بعض اللغويين بمعاونة بعض المنظمات المهتمة بالتنوع اللغوي حول العالم لحث متحدثي تلك اللغات المهددة بالانقراض على التمسك بلغاتهم واستعمالها للحيلولة دون اندثارها. ورغم نبل الهدف إلا أن الداعمين لتلك المحاولات ينسون أن وظيفة اللغة الأساسية هي تمكين الناس من التواصل، وبالتالي فإن من اللازم لسكان قرية نائية أو أفراد قبيلة معزولة أن يتمكنوا من لغة محيطهم الواسع إذا ما أرادوا الاندماج فيه وجني ثمار ذلك الاندماج، وهو ما يتم تلقائيا وطبيعيا خلال جيل أو جيلين على الأكثر إذا زالت الأسباب التي كانت تعيق أو تمنع التواصل. وإذا أدى ذلك الاندماج إلى اندثار لغة ما فلا ينبغي البكاء على أطلالها أو محاولة الحفاظ عليها على حساب مصلحة الناس، خصوصا أنه إذا فقدت لغة محلية فإن ما يحل محلها عادة ما يكون لغة محلية أخرى، مما يجعل اكتسابها سهلا للجميع سواء كانوا من أهلها الأقدمين أو ممن هجروا لغة آبائهم المندثرة، لأن اكتسابها يكون طبيعيا وليس صناعيا كما يحدث مع اللغات الأجنبية.


خاتمة
إذا أردنا تشبيه اللغة بشيء يضاهيها من حيث الأهمية فإننا يمكن أن نشبهها بالأساسات التي توضع قبل البناء، فبدونها يستحيل أن نشيد مبنى. وكما توضع الأساسات قبل البناء فإن اللغة تكتسب في الصغر قبل أن ندخل معترك الحياة بدءً بالمدرسة ثم الجامعة ثم العمل وهلم جرا، فبدون اللغة لا تستقيم الحياة.

لكن اللغة حالها حال الأساسات ليست هدفا بحد ذاته، فكما أن الغرض من وضع الأساسات تشييد البناء لا الأساسات بحد ذاتها، فإننا نكتسب اللغة لنحقق بها مقاصدنا المتنوعة في الحياة وليس لمجرد استخدامها. ولذلك نلاحظ أن ابن خلدون عندما صنف العلوم وضع اللغة ضمن العلوم الآلية التي نسعى إلى تحصيلها لا لذاتها وإنما لنستخدمها من أجل تحصيل العلوم المقصودة لذاتها.

ولأنها للحياة بمنزلة الأساسات للمبنى فإن اللغة يجب أن تكون متاحة للجميع على مختلف مستوياتها التي نحتاجها، فكما نكتسب شقها العامي دون عناء فإن من الضروري أن نكتسب شقها الفصيح بسلاسة أيضا، وهو ما يستلزم أن يكون ذلك الشق الفصيح حاضرا بقوة في مجالاته فنكتسبه اكتسابا طبيعيا دون الدخول في عالم زيد وعمرو الافتراضي.