الاثنين، 30 أبريل 2012

خلدونيات لغوية: في التعلم بلغة أجنبية


اشتهر ابن خلدون بأنه مؤسس علم الاجتماع، حيث تحدث في مقدمته الشهيرة عن العديد من الأمور التي تتصل بقيام الدول والعمران البشري وصعود الحضارات واندثارها. وقد اهتم الباحثون وما زالوا بما كتبه ابن خلدون عن التاريخ والسياسة والاقتصاد والعلوم وغير ذلك من المواضيع التي احتوت عليها المقدمة، إلا أن موضوع اللغة وآراء ابن خلدون فيها لم يحظ بالاهتمام الكافي كما حظيت المواضيع الأخرى. ولذا فسوف نتحدث عن آراء ابن خلدون اللغوية في سلسلة مقالات محاولين شرحها وتقييمها ومعرفة كيفية الاستفادة منها في عصرنا الحالي.
____________________________________________________________

تناول ابن خلدون في مقدمته مسألة التعلم بلغة أجنبية، حيث عقد فصلا بعنوان "في أن العجمة إذا سبقت إلى اللسان قصرت بصاحبها في تحصيل العلوم عن أهل اللسان العربي"، ذكر فيه عدة نقاط بدأها بتقسيم مواضع فهم العلوم إلى موضع الخيال وموضع الذهن، فوظيفة الخيال فهم اللغة ووظيفة الذهن فهم المحتوى المقدم بتلك اللغة.

وللتقريب يمكننا أن نقول بلغة عصرنا أن العلوم عبارة عن شكل ومضمون، فشكلها هو اللغة المكتوبة بها، ومضمونها هو مادتها. وتختلف أهمية الشكل عن أهمية المضمون حسب نوع العلوم، فالشكل، أي اللغة، مهم جدا في العلوم الشرعية كما يقول ابن خلدون، بعكس العلوم العقلية التي يقل فيها دور اللغة.

ولكن بغض النظر عن نوع العلم فإن دور اللغة لا يمكن إغفاله وهو مقدم على المضمون، ولذلك يؤكد ابن خلدون أن "الألفاظ و اللغات وسائط وحجب بين الضمائر، وروابط وختام بين المعاني". ولهذا السبب يقرر ابن خلدون أن من يتلقى العلم بلغة غير لغته تكون لديه مشكلة أكبر من تلك التي يواجهها من يتعلم بلغته، لأن الأول يعاني من صعوبة في الشكل والمضمون، أما الثاني فإن ملكته اللغوية راسخة وليس عليه "إلا معاناة ما في المعاني من المباحث فقط"، أي أنه إن واجهته مشكلة فإنها تكون في المضمون فقط وليس  الشكل.

ثم يتابع ابن خلدون كلامه بالتفريق بين من يتعلم بلغة أجنبية مشافهة وبين من يتلقى العلم بلغة أجنبية من الكتب، فإن كان الأول يواجه حجابا كما يسميه ابن خلدون، فإن الثاني يواجه حجابين، فالأول يعجز عن فهم معاني الكلمات ودلالاتها اللغوية بدقة، ويعاني الثاني مما يعاني منه الأول بالإضافة إلى ضعف قدرته على معرفة الدلالات الخطية لما يقرأه.

ويبرهن ابن خلدون على صحة كلامه بالقول أن "الكثير من علماء الأعاجم في دروسهم ومجالس تعليمهم يعدلون عن نقل التفاسير من الكتب إلى قراءتها ظاهرا يخففون بذلك عن أنفسهم مؤونة بعض الحجب ليقرب عليهم تناول المعاني"، أي أن قراءتهم للنصوص العربية بصوت مرتفع تهدف إلى إزالة الحجاب الخطي حتى تنحصر الصعوبة في الحجاب اللفظي.

ويواصل ابن خلدون حديثه قائلا أنه قد يتمكن "الدؤوب على التعليم والمران على اللغة وممارسة الخط" من إتقان لغة أجنبية، إلا أن هذا نادرا ما يحدث، وحتى وإن حدث فإننا إن قارنا العالم الأعجمي "بنظيره من علماء العرب وأهل طبقته منهم، كان باع العرب أطول وملكته أقوى، لما عند المستعجم من الفتور بالعجمة السابقة التي تؤثر القصور بالضرورة".

ومعنى هذا الكلام أنه حتى وإن أتقن أحد العلماء لغة أجنبية فإنه يظل أقل درجة من نظرائه من العلماء الذين يتقنون اللغة لكونهم اكتسبوها طبيعيا وليس صناعيا مثله، فهو بإتقانه هذا يكون أعلى رتبة من متعلمي اللغة الأجنبية الآخرين، وأدنى درجة من قرنائه العلماء من أصحاب اللغة.

ولكن من هم أصحاب اللغة؟

يجيب ابن خلدون على هذا السؤال بالتأكيد على أن اللغة الأم ليست مرتبطة بالنسب أو بأسبقية الاكتساب، فقد يكون أحدهم أعجمي النسب ولكن نشأته بين العرب تمكنه من إتقان اللغة العربية حاله حال العربي الذي ينشأ في ذات البيئة. ولذلك كان العديد من علماء الحضارة الإسلامية عجما في النسب عربا باللغة كما يشير ابن خلدون.

وقد ينشأ الطفل على لغة ما، ولكنه ينتقل إلى بيئة أخرى ذات لغة مختلفة في سن مبكرة فيكتسب اللغة الجديدة ويتقنها مثل أهلها وكأنه لم يسمع لغة غيرها. ويضرب ابن خلدون مثالا على هذه الحالة "بأصاغر أبناء العجم الذين يربون مع العرب قبل أن تستحكم عجمتهم، فتكون اللغة العربية كأنها السابقة لهم، و لا يكون عندهم تقصير في فهم المعاني من العربية. وكذا أيضا شأن من سبق له تعلم الخط الأعجمي قبل العربي".

وباختصار فإن اللغة الأم هي اللغة التي يربى عليها الصغير وتستحكم عنده حتى يكبر، فهي ليست بالضرورة مرتبطة بالعرق ولا باللغة ذات أسبقية الاكتساب في الصغر.

ويختتم ابن خلدون كلامه بالتوكيد على أن كل ما ذكره في فصله لا ينطبق فقط الأعاجم الذين يتعلمون اللغة العربية، ولكنه يشمل كل من يتعلم بلغة أجنبية. ولذلك يؤكد أن ما قاله لا يتنافى مع ما "كان لليونانيين في علومهم من رسوخ القدم فإنهم إنما تعلموها من لغتهم السابقة لهم و خطهم المتعارف بينهم".


تطبيقات
إذا نظرنا إلى شرح كلام ابن خلدون أعلاه لوجدنا أنه باستطاعتنا تقسيمه إلى ثلاث نقاط رئيسة:

أولا، ليس هناك خلاف على أن من يتعلم بلغة غير لغته يعاني كثيرا مقارنة بمن يتعلم بلغته، فهذا من المعلوم من الواقع بالضرورة، وهو أمر يعايشه الكثيرون داخل بلادنا ممن يتعلمون بلغات أجنبية وخارجها أيضا ممن يسافرون إلى الخارج للدراسة.

فبالنسبة لمن يدرسون بلغات أجنبية في بلادنا فإن العديد منهم يعاني من حجاب الألفاظ والخط اللذان ذكرهما ابن خلدون، لأنهم يعتمدون في تخصصاتهم على كتب بالانجليزية أو الفرنسية. أما من يسافر إلى الخارج ليدرس فقد يرتفع عنه حجاب الخط ويبقى جل المعاناة ناتجا عن حجاب الألفاظ. ولذلك نجد من درس في الخارج أكثر إتقانا للغة البلد التي درس فيها مقارنة مع نظيره الذي درس في بلادنا، إذ أن عامل المشافهة حاضر وبقوة في تلك البلاد الأجنبية، ليس داخل الجامعات فقط وإنما خارجها أيضا.

ولكن بغض النظر عن درجة الإتقان التي يصل إليها من درس في الخارج، أو حتى من اجتهد ووصل إليها دون مغادرة بلده، فإن كليهما يظل أقل إتقانا من أصحاب اللغة الأصليين. وحتى وإن تميز أحدهم عن الآخرين فإنه يكون كالأعور وسط العميان، فهو أفضل حالا منهم ولكنه أدنى ممن يرى بعينين. ولذلك أكد ابن خلدون على هذه الحقيقة حين ذكر أن العالم الأجنبي الذي يدرس العلوم بالعربية يظل أقل طبقة من نظرائه من علماء العرب.

ويمكننا أن نعمم هذا الكلام على كل متعلمي اللغة وليس على العلماء منهم فقط، لأن ابن خلدون لم يركز على العلماء سوى لأنه كان يتحدث في سياق تحصيل العلوم وليس لأن ما سماه الفتور، أي الضعف، بالعجمة السابقة التي يؤثر القصور بالضرورة حالة يختص بها العلماء دون غيرهم.

النقطة الثانية التي ينبغي ملاحظتها هي ما ذكره ابن خلدون عن أن من يتعلم بلغته ليس عليه " إلا معاناة ما في المعاني من المباحث فقط"، أي أن كل تركيزه ينصب على المضمون. وهذه نقطة مهمة لأنها تعني أن مجرد تلقي العلوم بلغتنا لا يعني أننا سوف نفهم تلك العلوم أو نهضمها بسهولة، فحتى وإن كانت باللغة العربية فإن علينا أن نبذل مجهودا لفهم محتوى المواد. ولذلك نجد أن البعض يتفوق على البعض الآخر رغم كونهم جميعا من أصحاب اللغة.

ولهذا فإن من المهم أن ندرك أن ترجمة العلوم وتعريبها ليس إلا خطوة على الطريق الصحيح، فبهما تتم إزالة الحجب اللغوية التي تعيق الطالب عن تلقي العلوم دون أن يعني ذلك أنه لا يلزم الطالب أن يجتهد لكي يفهم ما يقرأه من مواد مترجمة إلى لغته.

ولا تقتصر تلك الصعوبة التي يواجهها الطالب على الكتب المترجمة فقط، ولكنها تتعداها إلى ما كتب باللغة العربية ابتداء، لأن تلك الصعوبة تتعلق بمحتوى الكلام وليس بشكله. ولذلك يعاني بعضنا من عدم القدرة على فهم بعض ما نقرأه بالعربية حتى إن كنا نعرف معاني جميع الكلمات المستخدمة، فالله سبحانه وتعالى خلقنا متفاوتين في القدرات.

ولكي يفهم القارئ كتابا ما، حتى وإن كان بلغته، فإنه ينبغي توافر عدة عوامل منها الإلمام بالعلم الذي يقرأ عنه والقدرة على فهم مقصود الكاتب ومعرفة سياق كلامه والمعاني الضمنية التي لم يصرح بها إلى غير ذلك مما لا يمكن لنا فهمه لمجرد معرفة معنى كل كلمة وردت في النص بمفردها.

وباختصار فإن رسوخ الملكة اللغوية شرط أساسي لا يمكن للقارئ بدونه أن يفهم العلوم، ولكنه في ذات الوقت لا يكفي بمفرده.

النقطة الثالثة تتعلق بتعريف ابن خلدون لأصحاب اللغة، حيث ذكر ابن خلدون أن اللغة الأم هي اللغة التي يتربى عليها الصغير وتستحكم عنده حتى الكبر. وتكمن أهمية هذا التعريف في ما ذكره ابن خلدون عن أن اللغة الأم ليست بالضرورة مرتبطة بالعرق، وهذا واضح جلي لكل من ينظر إلى أبناء المهاجرين الذين يكتسبون لغة البلد الذي يتربون فيه ويتقننونها إتقانا لا يختلفون في درجته عن سكان البلد الأصليين حتى وإن اختلفوا عنهم في العرق.

والناظر اليوم إلى أبناء المهاجرين إلى دول أوروبا الغربية وأمريكا الشمالية يجد أن ما قاله ابن خلدون مطابق للواقع بدرجة كبيرة. وحتى إن لم يولد هؤلاء الصغار في تلك البلدان فإن انتقالهم إليها في سن مبكرة يمكنهم من اكتساب لغتها كمن ولد فيها، وهذا يعني أنه يمكن للطفل أن ينتقل من لغة إلى أخرى ما دام صغيرا ولم يبلغ مرحلة الاستحكام، لدرجة أنه عندما يكبر يكون أكثر إتقانا للغة التي اكتسبها لاحقا من اللغة التي سبقتها، فتكون اللغة اللاحقة كأنها السابقة لديه. وهذا ما يحدث مع جل العرب مثلا الذين يهاجرون إلى بلاد أخرى مع أطفالهم الصغار الذين نلحظ على كثير منهم ضعفا في العربية وإتقانا للغة بلد المهجر عندما يكبرون رغم أن اللغة العربية كانت السابقة لديهم.

لكن تعريف ابن خلدون أغفل مسألة نستطيع طرحها في السؤال التالي: هل يمكن لمن يربى على لغتين أن تستحكم لديه كلا منهما؟

الإجابة أنه غالبا يمكن لهذا أن يحدث، ولكن شريطة أن يربى الصغير في بيئة تستخدم فيها اللغتان مما يمكنه من اكتسابهما طبيعيا دون عناء.

لكن في ذات الوقت وحتى لا تكون تلك الإجابة مجافية للواقع فإنه من المهم أن نبين أن تعدد اللغات في بيئة ما عادة ما يؤدي إلى تقسيم الأدوار بينهم بحيث تطغى كل لغة على مجالات  معينة، إذ تطغى لغة في البيت مثلا، وأخرى في السوق، وثالثة في المصالح الحكومية، وهكذا دواليك. ولذلك نجد أن درجة إتقان من يكتسب لغتين مثلا من بيئته منذ الصغر تختلف بحسب المجال المحدد لكل منهما، أي أنه إذا طلب منه التحدث بإحدى اللغتين عن موضوع يدخل في مجال يشيع فيه استخدام الأخرى ظهر التفاوت في درجة إتقانه. وهذا يتوافق مع ما كرره ابن خلدون في مواضع شتى في مقدمته حين قال أن "من حصلت له ملكة في صناعة فقل أن يجيد بعدها ملكة أخرى"، كما أنه عين ما ذكره ابن خلدون في الفصل الذي نحن بصدده هنا من أنه "إذا تقدمت في اللسان ملكة العجمة، صار مقصرا في اللغة العربية، لما قدمناه من أن الملكة إذا تقدمت في صناعة بمحل، فقل أن يجيد صاحبها ملكة في صناعة أخرى".

وعلى أية حال فإن إغفال ابن خلدون لتلك النقطة قد يرجع إلى أنه كان يتحدث عن سياق محدد وهو العلاقة بين إتقان اللغة العربية والقدرة على تحصيل العلوم، حيث كان العالم العربي لا يحتاج في ذلك العصر سوى اللغة العربية، بينما كان نظرائه من المسلمين غير العرب يحتاجون إلى إتقان اللغة العربية بالإضافة إلى لغتهم من أجل تحصيل العلوم. وعليه فإن الحالة المذكورة أعلاه عن تعدد اللغات في ذات البيئة لم تكن حاضرة في موضوع الفصل محل النقاش في هذا المقال، ولذلك والله أعلم لم يتطرق ابن خلدون إلى ذكرها.


خاتمة
لا تعد حقيقة صعوبة تحصيل العلوم بلغة أجنبية اكتشافا خلدونيا ما كنا لنعيه لولا أن ذكره ابن خلدون، فتلك الحقيقة معلومة من الواقع بالتجربة والملاحظة. ولكن الإسهام الحقيقي لابن خلدون هو أنه وضع تلك الصعوبة في سياقها الاجتماعي من حيث تفصيله في مسألة الحجابين اللفظي والخطي، ودنو درجة العالم الأجنبي عن درجة نظيره صاحب اللغة حتى وإن كانت درجة إتقان الأول لتلك اللغة عالية جدا، ومن حيث تعريفه للغة الأم أيضا.

ولئن كان تحصيل العلوم بلغة أجنبية صعبا فإن التدريس بلغة أجنبية أصعب. وهذا ما يواجهه عدد متزايد من المحاضرين حول العالم عندما يدرّسون بلغة أجنبية، وعندما يحاولون نشر أبحاثهم بلغة أجنبية أيضا. وكثير ممن حضر المؤتمرات العلمية التي تقام باللغة الانجليزية يرى بوضوح كيف تعاني الغالبية العظمى ممن يقدمون بحوثهم بالانجليزية لكونهم ليسوا من أصحاب اللغة، وكيف أنه ما إن يتحدث شخص من أهل اللغة الانجليزية يكون وقع حديثه أكبر من الآخرين الذين تجني عليهم اللغة فتحط من قدرهم رغم علمهم.

وعليه فإنه من الضروري جدا أن نفعل دور الترجمة كما فعل أسلافنا الذين كما يقول ابن خلدون "تشوفوا إلى علوم الأمم فنقلوها بالترجمة إلى علومهم وأفرغوها في قالب أنظارهم، وجردوها من تلك اللغات الأعجمية إلى لسانهم وأربوا فيها على مداركهم". وإذا لم نقم بذلك فإن كل حديث عن أية نهضة علمية لا يعدو إلا أن يكون سرابا يحسبه الظمآن ماء، وهذا ما يؤكده العالم المصري رشدي راشد رغم إقامته في فرنسا منذ زمن بعيد.

ولا يصح في هذا المقام أن نستشهد بنجاح بعض العلماء العرب في الداخل أو الخارج رغم استخدامهم اللغات الأجنبية، فنحن هنا لسنا بصدد بروز عالم هنا أو نجاح شخصي هناك، وإنما ما يجب أن يشغل بالنا هو توطين العلوم لتحقيق نهضة شاملة يستفيد منها المجتمع كله، مما يستلزم أن يكون العلم متاحا للجميع وليس دولة بين من يعرفون لغة أجنبية أو اثنتين.

وعلى كل فإنه ليس لمن لم يقتنع بضرورة استخدام اللغة العربية في التعلم والتعليم إلا بيت المتنبي الذي قال فيه:
             
                                                                                     
وليس يصح في الأفهام شيء ... إذا احتاج النهار إلى دليلِ