السبت، 30 يونيو 2012

خلدونيات لغوية: بين الفصحى واللهجات

اشتهر ابن خلدون بأنه مؤسس علم الاجتماع، حيث تحدث في مقدمته الشهيرة عن العديد من الأمور التي تتصل بقيام الدول والعمران البشري وصعود الحضارات واندثارها. وقد اهتم الباحثون وما زالوا بما كتبه ابن خلدون عن التاريخ والسياسة والاقتصاد والعلوم وغير ذلك من المواضيع التي احتوت عليها المقدمة، إلا أن موضوع اللغة وآراء ابن خلدون فيها لم يحظ بالاهتمام الكافي كما حظيت المواضيع الأخرى. ولذا فسوف نتحدث عن آراء ابن خلدون اللغوية في سلسلة مقالات محاولين شرحها وتقييمها ومعرفة كيفية الاستفادة منها في عصرنا الحالي.
___________________________________________________


تعد سيطرة اللهجات العامية على ألسنة الكثير من أبناء العربية أحد المشاكل التي تواجهنا منذ زمن بعيد، إذ يصعب أن نجد من هو قادر على النطق بعربية سليمة دون أخطاء، وذلك حتى بين من الحاصلين على الشهادات الجامعية وبين من يشغلون مناصب عليا في بلادنا.

وبما أن ابن خلدون عاش في القرن الثامن الهجري حيث كان الفرق بين الفصحى والعاميات واضحا جليا، فإن لنا أن نتسائل: كيف عالج ابن خلدون هذا الموضوع؟

أولا، قبل أن نسترسل في الحديث عن ما قاله ابن خلدون عن اللهجات الدارجة في عصره والتي قسمها إلى قسمين، أولهما اللهجة البدوية، وثانيهما لهجات الحضر التي قسمها إلى لهجة المشرق ولهجة المغرب ولهجة الأندلس، فإن من اللافت للنظر أن صاحب المقدمة أوضح أن اختلاف اللهجات العامية عن الفصحى لا يعني أن ليس لها قواعد، فكما أن للفصحى قواعد فإن للهجات الدارجة قواعدها وإن لم تدون. ولذلك يقول ابن خلدون أننا "لعلنا لو اعتنينا بهذا اللسان العربي لهذا العهد"، أي أننا لو درسنا اللهجات الدراجة في زمنه، "واستقرينا أحكامه نعتاض عن الحركات الإعرابية في دلالتها بأمور أخرى موجودة فيه تكون بها قوانين تخصها. ولعلها تكون في أواخره على غير المنهاج الأول في لغة مضر"، أي في العربية الفصحى، "فليست اللغات و ملكاتها مجانا"، أي أن لكل لهجة نظام وقوانين وقواعد وإن لم تستنبط. ولذلك يؤكد ابن خلدون في موضع آخر أن كل متحدث من متحدثي اللهجات الدارجة "متوصل بلغته إلى تأدية مقصوده والإبانة عما في نفسه. وهذا معنى اللسان واللغة. وفقدان الإعراب ليس بضائر لهم".

وإذا عدنا إلى تقسيم ابن خلدون للهجات العامية في عصره نرى أن ذلك التقسيم لم يكن على أساس جغرافي فقط، وإنما على أساس لغوي أيضا، حيث ذكر ابن خلدون أن عربية البدو في عصره كانت قريبة من الفصحى، فهي من ناحية "بيان المقاصد والوفاء بالدلالة على سنن اللسان المضري ولم يفقد منها إلا دلالة الحركات على تعيين الفاعل من المفعول فاعتاضوا منها بالتقديم والتأخير وبقرائن تدل على خصوصيات المقاصد".

ومعنى هذا الكلام أن الفرق بين الفصحى وعامية البدو في عصر ابن خلدون هو أن الأخيرة فقدت حركات الإعراب كالفتحة والضمة وانتشر فيها تسكين أوخر الكلمات، مما أدى إلى استخدام سبل أخرى لتحديد الفاعل والمفعول مثل تقديم الفاعل على الفعل بعكس الفصحى التي يتقدم فيها الفعل على الفاعل. وللتوضيح نضرب المثال التالي:

في الفصحى:  قتلَ البطلُ الأسدَ.

في العامية: البطلْ قتل الأسدْ.

نجد في المثال الأول أن حركات الإعراب هي التي تحدد القاتل من المقتول، إذ يسعنا أن نقدم المفعول به لنقول "قتلَ الأسدَ البطلٌ" دون أن يتغير المعنى، لأن حركات الإعراب هي التي تبين الفاعل والمفعول بغض النظر عن موقعهما في الجملة.

أما في الجملة العامية فإننا نجد أن تغيير موضع الأسماء بالبدء بالأسد بدلا عن البطل يغير معنى الجملة، إذ يصبح الأسد فاعلا والبطل مفعولا به، وذلك لأن فقدان حركات الإعراب وتسكين أواخر الكلمات يجعلان من العسير تعيين الفاعل من المفعول، ولذلك يبدأ متحدثو العامية بالفاعل حتى لا يختلط المعنى على المستمع، وهذا ماعناه ابن خلدون بالتقديم والتأخير، وهما سمة من سمات لهجاتنا المعاصرة أيضا.

وبالطبع فإن معنى الجملة يفهم اعتمادا على ما ذكر قبلها وبعدها، فجملة مثل المذكورة أعلاه لا تقال دون تمهيد أو معرفة بما سبق الحدث، إذ غالبا ما يكون عند المستمع فكرة عما يسميه ابن خلدون "بساط الحال"، وهو ما يعرف اليوم بالسياق.

ولا يعني تأكيد ابن خلدون على أن الفروق بين الفصحى ولهجة البدو في عصره لم تكن كبيرة جدا أنهما يكادان يتطابقان، إذ أنه بالإضافة إلى تميز الفصحى باحتفاظها بحركات الإعراب فإن البيان والبلاغة فيها " أكثر وأعرق" كما يستدرك ابن خلدون.

أما بالنسبة للهجات الحضر فقد قسمها ابن خلدون كما  ذكرنا إلى ثلاث لهجات رئيسة، وهي لهجة الأندلس ولهجة المغرب ولهجة المشرق. كما بين ابن خلدون أن هذه اللهجات تختلف عن بعضها، كما أنها تختلف اختلافا كبيرا عن الفصحى وعن دارجة البدو، وهي أبعد من الفصحى من دارجة البدو، والسبب في ذلك أن أهل الحضر اختلطوا بغير العرب اختلاطا كثيفا، ومن "خالط العجم أكثر كانت لغته عن اللسان العربي أبعد".

ومن مظاهر هذا الاختلاف أن لهجات الحضر لم تفقد حركات الإعراب في أواخر الكلمات فقط، وإنما اشتملت أيضا على كلمات موجودة في الفصحى ولكن بمعنى مغاير، ولذا يذكر ابن خلدون أن تلك اللهجات "تختلف باختلاف الأمصار في اصطلاحاتهم فلغة أهل المشرق مباينة بعض الشيء للغة أهل المغرب وكذا أهل الأندلس عنهما".

ولهذا السبب اعتبر ابن خلدون أن عربية الحضر أبعد من الفصحى من عربية البدو، إذ اختلفت عن الفصحى في إعراب الكلمات وفي مصطلحاتها وليس في الإعراب فقط.

ثانيا، بالنسبة للعلاقة بين الفصحى واللهجات الدارجة فقد ذكر ابن خلدون أن السبيل إلى إتقان الفصحى هو مخالطتها مخالطة مكثفة حتى يصبح الكلام العربي الفصيح سليقة لدى المخالط يستخدمه بطلاقة دون التفكير في الإعراب أو في قواعد النحو والصرف.

وقد ذكر ابن خلدون أن تلك المخالطة تؤتي أكلها كاملة لمن يربى على اللهجات الدارجة العربية، ولكنها لا تؤدي إلى التمكن من الفصحى لمن يربى على لغة غير اللغة العربية، وذلك لحلول ملكة أخرى واستحكامها عند الأعجمي، وهو ما يؤدي إلى عدم قدرته على الوصول إلى درجة قدرة العربي على إتقان الفصحى.

وهذا يعني أن العربي المخالط للفصحى بكثافة عالية يسعه أن يبلغ درجة تمكن من الفصحى يمكن وصفها بالكمال، بينما يستحيل ذلك على الأعجمي الذي مهما أتقن اللغة يظل له قصورا في بعض جوانبها. ولهذا أكد ابن خلدون أن ما يسميه أهل البيان بالذوق، وهو "حصول ملكة البلاغة للسان"، "لا يحصل للمستعربين من العجم".

لكن ابن خلدون لا يتوقف عند هذا الحد، إذ أنه يفرق بين عرب البادية وعرب المدن المجاورين للعجم من ناحية قدرة كل منهما على اكتساب الفصحى بالمخالطة، فعرب البادية لا يواجهون عائقا كبيرا إذا ما راموا إتقان الفصحى بالمخالطة، لانعزالهم عن العجم ولأن لهجتهم زمن ابن خلدون كانت قريبة من الفصحى ولم تختلف عنها إلا من ناحية فقدانها حركات الإعراب وانتشار التسكين في أواخر الكلمات، ومن ناحية أنها كانت أقل درجة في البيان والبلاغة كما سبق أعلاه.

أما بالنسبة لعرب الحضر فإن ابن خلدون يفرق بين عرب المدن المجاورين لغير العرب في الأرياف والبادية من ناحية، وعرب المدن الكائنة في بلاد يشكل متحدثو العربية الأغلبية داخل مدنها وخارجها.

ومثال المجموعة الأولى بلاد المغرب قبل هجرة بني هلال وبني سليم إليها في القرن الخامس الهجري، إذ كان العرب في الأربعة قرون الأولى من الهجرة يشكلون أقلية تسكن المدن وكانوا محاطين بالبربر، مما جعل لسانهم العربي بعيدا عن اللسان العربي الأول، ولهذا "كان لهم قصور تام في تحصيل ملكته بالتعليم"، أي أن اكتسابهم الفصحى بمخالطتها كان صعبا لأن دارجتهم كانت بعيدة جدا عن الفصحى.

أما أهل الأندلس، وهم مثال ابن خلدون على المجموعة الثانية، فقد كانوا "أقرب إلى تحصيل هذه الملكة"، ليس فقط "لكثرة معاناتهم وامتلائهم من المحفوظات اللغوية نظما ونثرا"، وإنما أيضا لأن " أهل اللسان العجمي الذين تفسد ملكتهم إنما هم طارئون عليهم. وليست عجمتهم أصلا للغة أهل الأندلس".

وعليه فإن الفصل الذي عنونه ابن خلدون بقوله " في أن أهل الأمصار على الإطلاق"، أي عامة، "قاصرون في تحصيل هذه الملكة اللسانية التي تستفاد بالتعليم ومن كان منهم أبعد عن اللسان العربي كان حصولها له أصعب وأعسر"، لا يعني أن كل أهل المدن كذلك، وإنما الظاهر أن ابن خلدون عنى بذلك أهل الأمصار المجاورين لغير العرب المتأثرة لهجتهم العربية بكلامهم تأثرا عميقا. والدليل على ذلك أنه عد أهل الأندلس من القادرين على اكتساب الفصحى بالمخالطة رغم انتشار التمدن والعمران بينهم.

وباختصار فإن ابن خلدون يرى أن اكتساب الفصحى لمتحدث العامية ممكن شريطة مخالطتها بكثرة حتى يستطيع التحدث بها كمن نشأ بين العرب الأوائل.


شواهد وفوائد
قد يرى البعض في تأكيد ابن خلدون على أن لكل لهجة عامية قواعدها دعوة إلى العامية ومحاولة لزعزعة مكانة الفصحى، وقد يرى البعض الآخر أن ابن خلدون كان مفكرا تقدميا وتحرريا ولبراليا وما إلى ذلك من الأوصاف التي دخلت معجمنا الحديث، لكننا لا يمكننا أن نصف ابن خلدون بمثل تلك الأوصاف ليس فقط لأنه لم يعش في عصرنا الذي اقتحمت فيه المفاهيم الغربية ثقافتنا، ولكن لأن مثل هذه القراءة لا يمكن إلا أن تكون اجتزاءً لكلام الرجل دون النظر إلى شمولية فكره وتوازنه.

وإذا حاولنا أن نتحقق من كلام ابن خلدون لوجدنا بالفعل أن لكل لهجة عامية قواعدها المتعارف عليها بين متحدثيها حتى وإن لم تستقرأ وتدون، والدليل على ذلك أنه إذا حاول أحدهم التحدث بلهجة غير لهجته لعرف متحدثو تلك اللهجة أنه طارئ عليها وأنه ليس من أهلها. ولذلك نجد أنه حينما ينجح أحد الممثلين في أداء دور بلهجة غير لهجته الأم فإنه يلقى الثناء من النقاد والمشاهدين لعلمهم بمدى صعوبة القيام بذلك.

لكن حقيقة أن لكل لهجة قواعدها لا تعني أن ابن خلدون كان من دعاة العامية، إذ ذكر في مقدمته أنه "وقعت العناية بلسان مضر"، أي بالفصحى، "لما فسد بمخالطتهم الأعاجم حين استولوا على ممالك العراق والشام ومصر والمغرب وصارت ملكته على غير الصورة التى كانت أولا فانقلب لغة أخرى. وكان القرآن منزلا به والحديث النبوي منقولا بلغته وهما أصلا الدين والملة فخشي تناسيهما وانغلاق الأفهام عنهما بفقدان اللسان الذي نزلا به فاحتيج إلى تدوين أحكامه ووضع مقاييسه واستباط قوانينه. وصار علما ذا فصول وأبواب ومقدمات ومسائل سماه أهله بعلم النحو وصناعة العربية فأصبح فنا محفوظا وعلما مكتوبا وسلما إلى فهم كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم وافيا."

ومن هنا يتبين لنا أن هناك سببا وجيها للاهتمام بالفصحى، وهو فهم الكتاب والسنة. أما بالنسبة لاستقراء وتدوين قواعد اللهجات الدارجة فإن ابن خلدون يؤكد أننا "ليس عندنا لهذا العهد ما يحملنا على مثل ذلك ويدعونا إليه". وهذا دليل على أن الرجل لم يكن يروج للعامية بقدر ما كان يقر واقعا محسوسا يراه ويسمعه الجميع.

النقطة الثانية التي ينبغي ملاحظتها هي ما أقره ابن خلدون من أن من يربى على لهجة عامية يمكنه أن يتقن الفصحى عن طريق مخالطتها، بينما لا يتمكن الأعجمي من الفصحى كالعربي، وهذا من المعلوم من الواقع بالضرورة، حيث نجد أن الغالبية العظمى من متقني الفصحى اليوم هم من العرب الذين نشأوا على لهجتهم الدارجة وخالطوا الفصحى لاحقا فأتقنوها أكثر من الأعاجم متعلمي العربية التي يندر أن يصلوا إلى درجة إتقان العربي للفصحى رغم أن غالبيتهم يركزون على تعلم الفصحى دون اللهجات الدارجة.

وهذا يعني أن الاختلافات بين الفصحى واللهجات ليست هائلة لدرجة الزعم بأن الفصحى لغة مستقلة بذاتها عن باقي اللهجات، إذ أنها إن كانت كذلك لوجدنا أن الصعوبة التي يواجهها متحدثو العاميات بذات القدر من الصعوبة التي يواجهها متعلمو العربية من العجم، وما هي بذلك.

ولذا فإن من الممكن أن نعتبر اللهجات العامية وجوها أخرى للغة العربية، فهي رغم اختلافها البين عن الفصحى تظل جزءً من جسد اللغة الواحد، مما يسهل على متحدثيها التمكن من الفصحى إن هم أرادوا ذلك، وهو ما لا يتأتى لجل طلاب العربية من الأعاجم.


خاتمة
مما لا شك فيه أن سبب الجدل القائم حول الفصحى واللهجات الدارجة في عصرنا الحديث هو المحاولات الحثيثة لإقحام العامية في مجالات الفصحى عن حسن أو سوء نية، ولا شك أيضا أن السبيل إلى إنهاء ذلك الجدل هو تدعيم الفصحى وزيادة فرص مخالطتها وتسييدها في مجالاتها حتى يتوفر لدى كل عربي وجهان من اللغة العربية يستخدم كلا منهما في المقام المناسب. ومن شأن هذا الحل أن يحصر اللهجات داخل حدودها ويحول دون تسربها إلى أرض ليست ملكا لها.

ولا يجب أن نظن أن ذلك صعب المنال، إذ أننا نرى من حولنا الكثير ممن هم على درجة عالية من إتقان الفصحى، فنحن نلحظ على علماء الدين مثلا فصاحة عالية ونطقا سليما والتزاما بحركات الإعراب، وهو ما يبين مدى أهمية مخالطة الفصحى في تقويم اللسان وجعل النطق بها سليقة.

أما حلول مثل تقعيد اللهجات وهجر الفصحى بزعم صعوبتها وتعقيدها فهي هراء لا ينبغي أن نلتفت إليه وانهزامية لا يجب أن نستسلم لها، فالفصحى لغتنا، وإذا ما عشنا بين ثناياها وحيينا بها فإنها يمكن تجري على ألسنتنا بسهولة ويسر حتى يكون نطقنا بها غير بعيد عن لغة العرب الأوائل، فنتنزل بذلك كما يقول ابن خلدون "منزلة من نشأ بينهم ولقن العبارة عن المقاصد منهم".