الاثنين، 31 مايو 2010

هل هناك تلازم بين ازدهار الحضارة وقوة اللغة؟

شاعت في عصرنا هذا العديد من الأفكار التي غدت شبه مسلمات تسهم في بث الروح الانهزامية بين الناس وتبرر لهم عبثية الإصلاح وتزهدهم في مقاومة الفساد القائم في الداخل والقادم من الخارج. والمشكلة أن بعض هذه الأفكار فيها شيء من الصحة، ولكنها في أغلب الأحيان تعمم خارج نطاقها دون أية محاولة تذكر للتفصيل والتحقق مما إذا كانت تستخدم في سياقها الصحيح أم لا.

ومن هذه الأفكار التي أضحت شبه مسلمات ما انتشر بين الكثيرين من أن اللغة تنهض إذا نهض أهلها وصار لهم حضارة وتضمحل إذا ذبلت حضارتهم وخفت بريقها.

وهذا الكلام الذي فيه جانب من الصواب يستخدم اليوم لتبرير النفوذ الذي تملكه لغات أجنبية كالإنجليزية والفرنسية في بلادنا العربية ولإقناعنا أن لغتنا العربية لن تقوم لها قائمة إلا إذا صارت لنا حضارة من جديد. وعليه فإن الكثيرين باتوا يعتقدون أن المطالبة بتعريب الحياة العامة في بلادنا العربية في جميع القطاعات كالاقتصاد والتعليم يعد ضربا من العبثية وخطأ في ترتيب الأولويات، لأن صعود الحضارة حسب رأيهم يسبق صعود اللغة.

ولكننا لو اختبرنا الفرضية المذكورة أعلاه وحاولنا التأكد من مدى صحتها سواء في الماضي أو الحاضر لوجدنا أنها تخالف تاريخنا وتخالف أيضا نموذجا حيا نعيشه اليوم.

فمن الناحية التاريخية نجد أن اللغة العربية كانت قوية داخل بيئتها في العصر الجاهلي، وذلك بالرغم من أن العرب لم تكن لهم حضارة في ذلك العصر. لا بل إن عرب الجاهلية رغم مجاورتهم للامبراطوريتين الفارسية والرومانية لم يتخلوا عن لغتهم، بل برعوا في استخدامها لدرجة أن الله سبحانه وتعالى تحداهم أن يأتوا بمثل القرآن الكريم. وهذا يعني أن اللغة كانت من أعظم المجالات التي برز فيها العرب في الجاهلية دون أن تكون لهم حضارة.

ولذلك فإن الأستاذ أحمد الضبيب يفرق في مقابلة له بين قوة اللغة داخل بيئتها وتأثيرها خارجها، فاللغة يمكن أن تكون مسيطرة داخل بيئتها حتى وإن لم يكن للمتحدثين بها حضارة، فإن قامت تلك الحضارة صار من الممكن أن يكون للغة تأثير خارج بيئتها.

وليس شرطا أن يتمثل هذا التأثير في قهر لغة لأخرى وحلولها محلها، فهذا لا يتم إلا توفرت عدة عوامل نناقشها في مقال آخر إن شاء الله. وإنما يمكن أن يكون ذلك التأثير محدودا بحيث تحتفظ كل لغة بكينونتها، فالفارسية رغم تأثرها بالعربية إلى حد كبير ظلت لغة مختلفة عن اللغة العربية بحيث لا يمكن لمتحدثي اللغتين التفاهم مستخدما كل لغته. وينطبق هذا على لغات أخرى تأثرت بالعربية كالتركية والسواحيلية والأردية والأندونيسية.

وحتى لا نخرج خارج إطار الموضوع فإن النتيجة التي يمكن أن نصل إليها هنا أنه إذا ازدهرت حضارة قوم فإنه يمكن للغتهم أن يكون لها تأثير في الخارج. أما إذا ذبلت حضارتهم فإن لغتهم يمكنها أن تبقى حاضرة بقوة متسيدة بيئتها، هذا بالطبع إن لم يبادر أبنائها بالتفريط فيها كما هو حاصل في كثير من الأقطار العربية اليوم.

أما إذا نظرنا إلى واقعنا اليوم لوجدنا أن دولة مثل سورية لها باع طويل في تعريب العلوم مقارنة بغالبية الدول العربية. والعجيب في الأمر أن هذه التجربة السورية في تعريب العلوم بدأت منذ فترة طويلة وفي ظروف غير مواتية خلال عهد الدولة العثمانية وحقبة الاستعمار الفرنسي بعده. ولم تدرس الجامعات الحكومية السورية العلوم بالفرنسية لغة الاستعمار أو بالإنجليزية منذ نشأتها، وما زالت حتى يومنا هذا تتخذ العربية لغة لتدريس جميع التخصصات.

ومما يثبت أنه ليس هناك تلازم بين ازدهار الحضارة وسيطرة اللغة داخل بيئتها أن سورية حالها حال الدول العربية الأخرى عاشت وما تزال تعيش عصر انكسار الحضارة الإسلامية، كما أن بها قدرا لا يستهان به من مظاهر التغريب. أضف إلى ذلك أن سورية ليست دولة كبيرة بحجم مصر مثلا، وأن التعريب فيها منفصل عن الإسلام انفصالا كبيرا على المستوى الرسمي على الأقل، وأنها شهدت في الفترة الأخيرة افتتاح عدد من الجامعات الخاصة التي تدرس بغير العربية، وأن اقتصادها يعاني من العديد من المشاكل. ولكن بالرغم من كل هذه المعوقات وغيرها فإن اللغة العربية لا تزال مسيطرة إلى حد كبير في سورية إذا ما قارناها بغالبية البلاد العربية الأخرى من ناحية التعليم العالي، وخصوصا بالنسبة إلى التخصصات العلمية.

وخلاصة القول أن النموذج السوري على الرغم من المصاعب التي تواجهه يظهر لنا أن التمكين للعربية داخل بيئتها لا يلزمه بالضرورة حضارة مزدهرة.

لا بل يمكننا أن نلاحظ أن اللغة العربية تشكل حالة نادرة من حيث أن الطلب عليها ما زال مرتفعا نسبيا بالرغم من انزواء الحضارة التي تمثلها، إذ لا يزال العديد من المسلمين من غير العرب يسعون إلى تعلمها داخل وخارج بيئتها مدركين أن الإلمام بها يعينهم على فهم دينهم فهما أعمقا، وذلك بالرغم من أن المردود المادي لمعرفة اللغة العربية أقل في كثير من الأحيان من المردود المادي لبعض اللغات الأخرى.

ومن هنا نستطيع أن نجيب على السؤال الذي عنونت به هذا المقال بالنفي، فليس هناك تلازم بين ازدهار الحضارة وقوة اللغة، على الأقل بالنسبة للغة العربية محور هذا المقال. ومعنى ذلك أن لغتنا العربية يمكنها أن تسود كل مناحي مجتمعاتنا حتى وإن قل تأثيرها في الخارج، وحتى وإن كانت حضارتنا تشهد ضعفا. وعليه فإننا إن سقمنا وسقمت معنا حضارتنا، فلا يجب أن نبادر متطوعين إلى قتل لغتنا بأيدينا. وكما يقول المثل السوداني: العافية درجات.


هناك 4 تعليقات:

أم الخلود يقول...

في الحقيقة أن قوة اللغة تعد المحرك الرئسيس لأي حضارة ومنذ أن أصبحت اللغة العربية في تراجع تراجعت الحضارة الإسلامية وتخاذلت لكن لكل جواد كبوة وقريبا جدا ستغزو اللغة العربية الفصحى العالم بإذن الله.

غير معرف يقول...

أجذب مقعداً و أجلس لأول مرةٍ هنا في داركم محمد إدريس.. و تروقني قهوتكم العربية
طرحٌ جميلٌ و مقنع من حيث أنه لا يستلزم النهوض باللغة النهوض بالحضارة، و لو كانتا لا تنعزل إحداهما عن الأخرى تماماً!
التجربة السورية جميلة و توضع في المقدمة.. مقدمة الرف الذي اعتدنا أن نعرض فيه ما نقوم بعمله لمجرد العرض..لمجرد أن نرفع كفينا إلى الأعلى و نقول "قمنا بما علينا" و لا يشتري أحدٌ بضاعتنا!
ليتنا نشتري هذه التجربة..ليتنا نقلد صناعتها حتى!
....................
منذُ قالَ اللهُُ كــُـنْ كـُـنـّا.. و نمشي ما
نزالْ
...................
أختكم غابة

محمد إدريس يقول...

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته

شكرا لك أختي أم الخلود على تعليقك، وجل ما نتمناه في الوقت الحالي هو ألآ يعلو صوت فوق صوت اللغة العربية في بلادنا في جميع المجالات.

محمد إدريس يقول...

جزاك الله أختي غابة على تعليقك.

أنا مثلك تماما أتمنى أن يدرس العرب التجربة السورية في تعريب التعليم الجامعي، وخصوصا التخصصات العلمية. وأنا على يقين أنه إذا قامت مصر بذات الخطوة فإن العديد من العرب سوف يقتنعون على الأقل بإمكانية نجاح التجربة.

نتمنى أن نرى ذلك قبل أن توافينا المنية.

ودمتم.