اشتهر ابن خلدون بأنه مؤسس علم الاجتماع، حيث تحدث في
مقدمته الشهيرة عن العديد من الأمور التي تتصل بقيام الدول والعمران البشري وصعود
الحضارات واندثارها. وقد اهتم الباحثون وما زالوا بما كتبه ابن خلدون عن التاريخ والسياسة
والاقتصاد والعلوم وغير ذلك من المواضيع التي احتوت عليها المقدمة، إلا أن موضوع
اللغة وآراء ابن خلدون فيها لم يحظ بالاهتمام الكافي كما حظيت المواضيع الأخرى.
ولذا فسوف نتحدث عن آراء ابن خلدون اللغوية في سلسلة مقالات محاولين شرحها
وتقييمها ومعرفة كيفية الاستفادة منها في عصرنا الحالي.
____________________________________________________________
____________________________________________________________
تكلم ابن خلدون في معرض حديثه عن المدن عن اللغات التي تسود فيها، حيث عقد فصلا بعنوان "في لغات أهل الأمصار قرر فيه أن "لغات أهل الأمصار إنما تكون بلسان الأمة أو الجيل الغالبين عليها أو المختطين لها"، وجعل هذا العامل، أي التواجد البشري، السبب الرئيس في انتشار لغة ما ورسوخها.
وقبل أن نسترسل في
الحديث علينا أن نتوقف عند عدة نقاط تضمنتها عبارة ابن خلدون المذكورة أعلاه.
النقطة الأولى هي
أن ابن خلدون تحدث عن لغات أهل الأمصار، أي المدن، ولم يتحدث عن لغات أهل البوادي.
والسبب في ذلك والله أعلم أن المدن تجتذب إليها أعدادا غفيرة من البشر قد تختلف
لغاتهم عن بعضهم البعض وعن لغات سكان المدينة الأصليين، بمعنى أن المدن مؤهلة لأن
تكون حلبة تنافس بين اللغات أكثر من البوادي، ولهذا رأى ابن خلدون أن يوضح تلك
النقطة.
النقطة الثانية هي
أن لغات المدن تكون كما قال ابن خلدون بلسان الأمة أو الجيل الغالبين عليها أو
المختطين لها، ومعنى ذلك أنه قد يحدث أن تتغلب أمة على غيرها ويبدأ أفرادها
بالهجرة إلى مدنها، مما يعني التقاء لغتين مختلفتين، وهما لغة الأمة المتغلبة ولغة
الأمة المغلوبة. وفي هذه الحالة تسود لغة الأمة الغالبة وتنحسر لغة الأمة المغلوبة
تدريجيا إلى أن تتلاشى أو تبقى في البوادي فقط.
أما إذا قامت أمة
ما ببناء مدينة جديدة، فمن الطبيعي أن تكون لغة المدينة هي لغة الأمة التي أسستها،
وهذا معنى المختطين لها.
النقطة الثالثة
تكمن في لفظي أمة أو جيل، وهذا يعني أنه لكي تسود لغة ما، بالذات في حالة التغلب،
فإن ذلك يستلزم تواجد أعداد كبيرة نسبيا من الأمة المتغلبة، مما يعني أن السيطرة
على مدينة ما عسكريا أو سياسيا من قبل دولة أخرى لا يغير لغة المدينة، وإنما
تغيرها هجرات من تلك الدولة. ولهذا كان استخدام لفظي "أمة و"جيل"
غاية في الدقة من قبل ابن خلدون كما سنرى لاحقا.
أما إذا لم تتبع
سيطرة دولة ما على أخرى هجرات من سكان الدولة المتغلبة، يبقى الوضع على ما هو عليه
ولا تتغير لغة الدولة المغلوبة.
ويتابع ابن خلدون
كلامه مدعما ما ذكره في بداية الفصل بمثال عن اللغة العربية والطريقة التي سادت
بها العديد من أمصار البلدان التي فتحها المسلمون، حيث يؤكد أن العامل الأساسي في
ذلك هو هجرة العرب الكثيفة إلى تلك الأمصار حتى أضحى "أكثر الأمصار
في الملة لهذا العهد"، أي زمن ابن خلدون، "من أعقاب العرب
المالكين لها الهالكين في ترفها بما كثروا العجم الذين كانوا بها وورثوا أرضهم
وديارهم"، أي أن عدد الناطقين بالعربية صار أكبر من عدد الناطقين بغيرها من
اللغات في أمصار تلك الدول.
لكن ابن خلدون لا
يتوقف عند عامل التواجد البشري الكثيف، إذ يؤكد أن عامل الدين كان حاسما في انتشار
ورسوخ اللغة العربية في البلدان التي هاجر إليها العرب، وهذا يعني أن العرب عندما
نزلوا بلدان غير العرب كان هناك تنافس بين لغات السكان الأصليين والمهاجرين من
العرب، وقد رجحت كفة اللغة العربية بفضل كونها لغة القرآن والسنة.
ويمكننا تفسير هذا
الكلام قائلين أن العامل الرئيس في انتشار لغة ما ورسوخها هو التواجد البشري
الكثيف في منطقة ما، إلا أنه في حال تعادل الكفة من ناحية العنصر البشري تدخل
عوامل أخرى ترجح كفة لغة ما على غيرها. وقد ذكر ابن خلدون أن الدين كان مرجحا للغة
العربية بعد استيفائها شرط التواجد البشري على الأرض، لكن هذا لا يعني أنه ليس
هناك مرجحات أخرى تختلف من بلد إلى آخر حسب الظروف.
وعلى أية حال فإن
أيا من المرجحات لا يمكنها أن ترسخ لغة ما إلا إذا توفر عامل التواجد البشري
الكثيف كما قرر ابن خلدون في بداية الفصل.
ويذكر ابن خلدون
مثالا محددا ليعضد به كلامه فيقول أن اللغة العربية ظلت سائدة حتى عندما حكم غير
العرب من الديلم والسلاجقة في المشرق وزناتة والبربر في المغرب، وذلك لأنهم كانوا
على ملة الإسلام وإن لم يكونوا من العرب، فكل ما حدث للغة العربية في تلك الحقبة
أنها انحسرت بعض الشيء ولكنها ظلت باقية.
ولكن ما إن جاء
التتار والمغول الذين لم يكونوا على ملة الإسلام حتى اندثرت اللغة العربية في
مناطق مثل بلاد فارس وخراسان والسند والهند، وسادت لغات أخرى لدرجة أن "كتب
العلوم صارت تكتب باللسان العجمي"، وأصبحت اللغة العربية تدرس كلغة أجنبية في
تلك البلدان.
نقطة أخيرة تبقت
من كلام ابن خلدون وهي أنه عند تغلب لغة ما على أخرى فإن اللغة الغالبة تفسد بعض
الشيء لمخالطتها اللغة المغلوبة، ولهذا "فسد اللسان العربي بمخالطتها"، أي بمخالطة لغات الأمم الأخرى، "في بعض أحكامه
وتغير أواخره وإن كان بقي في الدلالات على أصله، وسمي لسانا حضريا". أما
عربية البدو فإنها أعرق في العروبية كما يشير ابن خلدون، وذلك لأنها سلمت من
مخالطة لغات أخرى كما حدث في الأمصار، أي المدن.
تطبيقات
إذا طبقنا كلام
ابن خلدون على انتشار ورسوخ اللغات في الماضي والحاضر نجد أن عنصر التواجد البشري
الكثيف كان وما زال حاسما في انتشار اللغات وتجذرها، ولذلك جعل ابن خلدون ذلك
العنصر عاملا رئيسا بينما جعل العوامل الأخرى مرجحة في حالة تعادل الكفة بين لغتين
أو أكثر، وإن كان لم يذكر من تلك العوامل سوى الدين بحكم المثال الذي أعطاه عن
اللغة العربية.
وإذا نظرنا إلى
أمثلة أخرى تخص اللغة العربية نجد مثلا أن المغرب العربي فتح في القرن الأول
الهجري، ولكنه لم يتعرب ولم تتجذر فيه اللغة العربية إلا ابتداء من القرن الخامس
الهجري بعد هجرة بني هلال وبني سليم، مما يعني أن أربعة قرون من لم تكن كافية
لترسيخ اللغة العربية في المغرب العربي لغياب الكثافة البشرية ورغم حضور عامل
الدين.
أما إذا قرأنا
تاريخ مصر نجد أن التواجد التركي فيها استمر أكثر من أربعة قرون بدأ بدخول مصر تحت
الحكم العثماني واستمر حتى منتصف القرن العشرين مع انتهاء حكم سلالة محمد علي
باشا. ورغم أن الكثير من أبناء الجالية التركية كانوا ينتمون إلى الطبقة العليا من
المجتمع إلى أن ذلك لم يؤد إلى تغيير وجه مصر اللغوي، حيث أن الجالية التركية كانت
مجهرية مقارنة بتعداد الشعب المصري. وهذا يعني أنه حتى وإن كانت مجموعة ما تمسك
بزمام الحكم في بلد يتحدث شعبه لغة غير لغتها فإنها تظل غير قادرة على تغيير لغته
إذا كان عدد أفرادها لا يذكر مقارنة بعدد أفراد الشعب.
ولكن في ذات الوقت
فإن هناك أمثلة من التاريخ المعاصر تظهر أنه يمكن للغة ما أن تنتشر وتترسخ على
حساب لغات أخرى رغم أن عدد متحدثيها كلغة أم صغير نسبيا، فاللغة الإندونيسية مثلا
كانت رغم انتشارها إبان الاستقلال اللغة الأم لحوالي عشر سكان إندونيسيا، ولكنها
كانت منتشرة كلغة تواصل بين متحدثي اللغات المختلفة الموجودة في جزر إندونيسيا،
مما سهل تبنيها لغة رسمية للبلاد لدرجة أن كل الإندونيسيين اليوم يتقنوننها
ويتحدثونها حتى وإن كانوا من التسعين بالمائة الذين لديهم لغات أخرى. وذات الشيء
ينطبق على اللغة السواحيلية في شرق أفريقيا حيث تعد اللغة الوحيدة لنسبة بسيطة من
السكان، ولكنها منتشرة ومتجذرة على نطاق واسع كلغة مشتركة بين متحدثي اللغات المختلفة
المنتشرة هناك.
ومن هنا نستطيع أن
نقول أن التواجد البشري الكثيف لا يعني بالضرورة أن يكون أفراد اللغة الغالبة
يشكلون الأغلبية، ولكن تواجدهم بأعداد معتبرة لا غنى عنه لانتشار ورسوخ لغتهم،
يساعدهم في ذلك بالطبع عوامل أخرى مرجحة تختلف من بلد لآخر. والدليل على ذلك
أنه رغم انتشار اللغة العربية وتجذرها عن طريق هجرات القبائل العربية إلا أننا
نستطيع أن نقول أن العرب لم يشكلوا غالبية السكان في الأقطار التي هاجروا إليها،
وإلا فكيف يمكننا أن نفسر أن العرب خارج الجزيرة العربية يختلفون في سحناتهم عن
عرب الجزيرة رغم أن الجميع يتحدث العربية؟ وكيف يمكننا أن نفسر أن سحنة المصري
المسلم لا تختلف عن سحنة المصري النصراني؟ فلو كان العرب غالبية سكان الأقطار التي
هاجروا إليها لوجدنا أن شكلهم يكاد يتطابق مع أشكال سكان الجزيرة العربية، وهذا مخالف للواقع. ولكن ما
حدث أنهم العرب هاجروا واختلطوا بسكان الأقطار الناطقة بالعربية في يومنا هذا وتغيرت
لغة تلك الأقطار دون أن يشكل العرب غالبية سكانها، مما يثبت أنه ليس شرطا للأمة
المهاجرة أن تكون الأغلبية حتى تتجذر لغتها في بلد ما، ولكن كل ما يلزم هو تواجد
أفرادها بأعداد مؤثرة، ومن ثم تأتي عوامل أخرى مرجحة لتساعد لغتهم على الانتشار
والتجذر.
ولقد أشار ابن
خلدون إلى هذا المعنى حين قال أن العرب خالطوا سكان الأمصار التي هاجروا إليها،
وأنه مع سيادة اللغة العربية "هجر الأمم لغاتهم وألسنتهم
في جميع الأمصار والممالك، وصاراللسان العربي لسانهم حتى رسخ ذلك لغة في جميع أمصارهم
ومدنهم وصارت الألسن العجمية دخيلة فيها وغريبة". وهذا يعني أن متحدثي
العربية في تلك الأمصاركانوا ممن اختلطوا بالعرب ومن السكان الأصليين التي
اكتسبوا اللغة العربية من المهاجرين العرب.
وفي المقابل نرى
أن اللغة الإنجليزية مثلا غير قادرة على الانتشار والتجذر في العديد من الدول
الآسيوية والأفريقية التي اتخذتها لغة رسمية منذ استقلالها، وذلك لعدم وجود جالية
يعتد بها تتحدثها كلغة أم راسخة في تلك البلاد. ولذلك نجد أن من يتحدث الانجليزية
في بلاد مثل الهند وباكستان ونيجيريا عادة ما يكون شخصا درسها في المدرسة لمدة
ليست بالقصيرة، أي أن تعلمه لها كان صناعيا كما يقول ابن خلدون، وليس طبيعيا كما
يحدث مع لغات مثل الإندونيسية والسواحيلية التي نجد أعدادا هائلة يتقنوننها في
إندونيسيا وشرق أفريقيا حتى بين من لم ينالوا حظهم من التعليم، لأنهم يكتسبون تلك
اللغات من البيئة المحيطة بهم وليس من المدرسة كما يحدث مع لغات كالانجليزية و
الفرنسية، واللتان يصعب القول على المنصف بأنهما ليستا لغتين أجنبيتين في الدول
الآسيوية والأفريقية اللتي اتخذتهما لغتين رسميتين، فاللغة لا تنتشر ولا تتجذر
بمجرد ترسيمها في الدستور.
خاتمة
قد يتسائل البعض
عن الغرض من دراسة آراء ابن خلدون اللغوية خصوصا بعد مرور أكثر من ستة قرون على
وفاة ابن خلدون، فهل يمكن لمقدمته أن تضيف شيئا جديدا إلى علم اللغة؟ أم أن الزمن
تجاوزها وانتهى تاريخ صلاحيتها منذ أمد بعيد؟
إن قراءة سريعة
للواقع في بلادنا العربية تظهر أن الكثير منا إما لم يقرأ مقدمة ابن خلدون، أو
قرأها ولم يستوعب كيفية إنزالها على الواقع، أو قرأها وفهمها وتجاهلها ظنا منه أن
التاريخ لا يتكرر وأنه بوسعه مخادعة سنن الكون وقوانينه.
وإذا أمعنا النظر
في واقعنا اللغوي نجد أن محاولات فرض اللغات الأجنبية ما زالت تتم على قدم وساق،
رغم استحالة انتشار وتجذر تلك اللغات بسبب غياب الكثافة البشرية التي يمكن أن
تمكنها من ذلك، إذ كيف للغة الانجليزية في المشرق أو الفرنسية في المغرب أن تنتشرا
دون إمكانية اكتسابهما طبيعيا وليس صناعيا كما يقول ابن خلدون؟
إن من يقرأ فصل
ابن خلدون الذي ناقشناه في هذا المقال ويرى السياسات اللغوية المطبقة في بلداننا
لا يمكن إلا أن يستنتج أن عالما مثل ابن خلدون لم يعد سوى اسم نفاخر به ونقول
للعالم أجمع أنه مؤسس علم الاجتماع دون أن نستفيد أدنى استفادة مما كتب. وإلا فكيف
نفسر استماتة بعضنا في الدفاع عن محاولات فاشلة تبغي تغيير واقع لغوي لا مفر منه
بدعوى الانفتاح والعولمة والواقعية وما إلى ذلك من كلمات تخفي ورائها قدرا كبيرا
من الانهزامية والاستكانة، لا بل قل اللاواقعية؟ فهل يتخيل أحدنا أن نصبح يوما
خواجات من أهل الانجليزية أو الفرنسية؟
الجواب بالنفي
طبعا، إذ أن كل ما يتم هو محاولات تؤدي في نهاية المطاف إلى جعل اللغة العربية
كسيحة غير قادرة على ممارسة دورها الطبيعي بصفتها لغة أمتنا التي لا فكاك منها،
والتي ما فتئت تصرخ منذ عشرات السنين وتقول: