اشتهر ابن خلدون بأنه مؤسس علم
الاجتماع، حيث تحدث في مقدمته الشهيرة عن العديد من الأمور التي تتصل بقيام الدول والعمران البشري وصعود الحضارات واندثارها. وقد اهتم الباحثون وما زالوا بما كتبه
ابن خلدون عن التاريخ والسياسة والاقتصاد والعلوم وغير ذلك من المواضيع التي احتوت
عليها المقدمة، إلا أن موضوع اللغة وآراء ابن خلدون فيها لم يحظ بالاهتمام الكافي
كما حظيت المواضيع الأخرى. ولذا فسوف نتحدث عن آراء ابن خلدون اللغوية في سلسلة
مقالات محاولين شرحها وتقييمها ومعرفة كيفية الاستفادة منها في عصرنا الحالي.
____________________________________________________________________
يعد حرف القاف من أكثر الحروف تنوعا من حيث النطق في اللهجات العربية المختلفة، حيث نجد أن القاف الفصيحة تسود بعض اللهجات، بينما تسود القاف البدوية لهجات أخرى، وتنفرد مجموعة ثالثة عن غيرها بالقاف المهموزة، بينما تنطق القاف في عدد محدود من اللهجات كالكاف أو الغين.
____________________________________________________________________
يعد حرف القاف من أكثر الحروف تنوعا من حيث النطق في اللهجات العربية المختلفة، حيث نجد أن القاف الفصيحة تسود بعض اللهجات، بينما تسود القاف البدوية لهجات أخرى، وتنفرد مجموعة ثالثة عن غيرها بالقاف المهموزة، بينما تنطق القاف في عدد محدود من اللهجات كالكاف أو الغين.
وفي كثير من الدول العربية نجد
اختلافا في نطق القاف بين بعض اللهجات داخل البلد الواحد، ففي مصر مثلا يستخدم
غالبية أهل الوجه البحري القاف المهموزة، بينما يستخدم أهل الصعيد القاف البدوية.
وفي تونس والجزائر والمغرب نجد أن بعض اللهجات تسودها القاف الفصيحة بينما تسود
القاف البدوية لهجات أخرى. وفي سورية نجد أن للقافين الفصيحة والبدوية حضور رغم أن
القاف المهموزة هي السائدة في غالبية لهجات البلد.
ولا يقتصر التنوع أحيانا على
الاختلاف بين اللهجات، إذ نجد مثلا أن بعض الكلمات المحتوية على حرف القاف في
لهجات وسط وجنوب العراق تنطق بالقاف البدوية وينطق بعضها الآخر بالقاف الفصيحة.
ومن نافلة القول أن الكلمات المشتملة على القاف والمستخدمة في الفصحى دون أو أكثر
من العامية تنطق بالقاف الفصيحة في كل لهجات العرب تقريبا، حتى في تلك التي تشيع
فيها القاف المهموزة أو البدوية. (لاحظ مثلا أننا لا نجد قاهريا ينطق كلمات مثل
"الفقه" و"الثقافة" و"الاقتصاد" بالقاف المهموزة).
وبعكس ما قد يعتقده البعض فإن وجود
أكثر من نطق للقاف ليس ظاهرة وليدة عصرنا الحالي، فلقد وجد في الماضي على الأقل
نطقان للقاف، وهما القاف الفصيحة ونظيرتها البدوية، واللتان تحدث عنهما ابن خلدون
في مقدمته بشيء من الاستفاضة.
وبما أن ابن خلدون كان عالم اجتماع
ومؤرخا في ذات الوقت، فإننا سنتحدث في هذا المقال عن الدلالتين الاجتماعية
والتاريخية لنطق القاف ملخصين كلام ابن خلدون عن كل منهما في نقطتين، وهما
كالتالي:
أولا، تحدث ابن خلدون عن الدلالة الاجتماعية لنطق القاف في
اللهجات الدارجة في عصره، حيث ذكر أن أهل الأمصار، أي المدن، كانوا يستخدمون القاف
الفصيحة، بينما كان أهل البادية يستخدمون القاف البدوية أينما وجدوا في بلاد
العرب، حتى صار استخدامهم لتلك القاف البدوية "علامة عليهم بين الأمم
والأجيال ومختصا بهم، لا يشاركهم فيه غيرهم".
وكما أن القاف الفصيحة كانت دليلا
على الانتماء إلى المدن، فقد كانت القاف البدوية دليلا على الانتماء إلى البادية
وأهلها، "حتى أن من يريد التعرب والانتساب إلى الجيل"، أي إلى أهل
البادية، "يحاكيهم في النطق بها. وعندهم إنما يتميز العربي الصريح من الدخيل في
العروبية أو الحضري بالنطق بهذه القاف".
يتضح من كلام ابن خلدون على أن طريقة
نطق القاف كانت وسيلة لإظهار انتماء المتحدث ومعرفة أصله وفصله، إذ كان يعرف بها إذا ما كان من سكان
المدن أو البادية، وإذا ما كان من أصحاب اللغة أو من الطارئين عليها ممن تعلموها على كبر، وكلا منهما من التصنيفات الاجتماعية التي تدل عليها لغة المرء أو لهجته أو لكنته.
ثانيا، تكلم ابن خلدون أيضا عن الدلالة التاريخية لنطق القاف،
حيث حاول أن يجيب على سؤال يطرح نفسه وهو: إذا كان لدينا نطقين للقاف، فأيهما
الأصل وأيهما الفرع؟ أيهما القديم وأيهما المستحدث؟
أجاب ابن خلدون على هذا السؤال
مستعينا بالحقائق التي على الأرض، حيث نبه عند حديثه عن أهل البادية إلى حقيقتين،
أولهما اتفاقهم "كلهم شرقا وغربا في النطق بها"، وثانيهما أنهم
"أبعد عن مخالطة الأعاجم من أهل الأمصار"، وكلتا الحقيقتين تدلان
تاريخيا على أن قاف البدو "متوارثة فيهم متعاقبة"، وأنها "لغة مضر
الأولين"، لا بل "لعلها لغة النبي صلى الله عليه وسلم بعينها"، مما
جعله يستنتج أن القاف البدوية أصل في اللغة العربية وأنها ليست ظاهرة
حديثة مقارنة بالقاف الفصيحة.
لكن استنتاج ابن خلدون هذا لم
يدفعه إلى القول بأن القاف الفصيحة الشائعة لدى أهل المدن هي المستحدثة، وذلك لأن
"لغة أهل الأمصار أيضا لم يستحدثوها، وإنما تناقلوها من لدن سلفهم، وكان
أكثرهم من مضر بما نزلوا الأمصار من لدن الفتح"، وبذلك فند ابن خلدون
احتمالية القول بأن القاف الفصيحة مستحدثة، وأنها نشأت نتيجة مخالطة العجم في
المدن، فحقيقة أن الكثير من العرب سكنوا المدن بعد الفتح تؤكد أن القاف الفصيحة أصل في اللغة
العربية كما هي القاف البدوية.
إذن، إذا كانت القاف الفصيحة أصيلة
في لغة العرب، وكذلك هي القاف البدوية، فهل يعني هذا أنه لا إجابة على السؤال
المطروح أعلاه؟
بلى، يرد ابن خلدون، ففي
"مخرج القاف متسع، فأوله من أعلى الحنك، وآخره مما يلي الكاف. فالنطق بها من
أعلى الحنك هو لغة الأمصار، والنطق بها مما يلي الكاف هي لغة هذا الجيل
البدوي".
ومعنى هذا الكلام أن دراية ابن
خلدون بالعرب وبتاريخهم جعلته يستنتج أن العرب في عهد النبي وقبله استخدموا كلا من
القاف الفصيحة ونظيرتها البدوية، أو أن بعضهم نطق بواحدة، ونطق البعض الآخر
بالأخرى. ولكن بعد الفتوحات الإسلامية هاجر العرب واستوطنوا العديد من الأقطار
خارج جزيرة العرب، فسادت القاف الفصيحة لهجات أهل المدن، بالإضافة إلى الفصحى
بالطبع، وسادت القاف البدوية لهجات أهل البادية.
تطبيقات معاصرة
بعد أن لخصنا أهم ما ذكره ابن
خلدون عن حرف القاف ودلالاته سنحاول في السطور القليلة التالية معرفة ما يمكن
استفادته من كلامه في عصرنا الحالي قاصرين الحديث عن ذات النقطتين الواردتين
أعلاه.
أولا، بالنسبة إلى الدلالة الاجتماعية للغة فإن الحديث عنها لا
يتطلب الكثير من الشرح أو الإسهاب لأننا نعرف من الواقع أننا كثيرا ما نتخذ من
اللكنات طريقة نستدل بها على أصل المتحدث وعلى مستواه التعليمي وطبقته الاجتماعية
وما إلى ذلك من تصانيف.
وليس خافيا علينا أن تصنيف الناس
بناءً على لكناتهم أمر مرتبط بما عرف عن مستخدمي لكنة معينة من صفات، فالكثير من
الآباء مثلا ينكرون على أبنائهم استخدامهم ما يسمى "لغة الشوارع"، لأن
ذلك قد يدل على أن الأبناء لم يربوا تربية حسنة من قبل آبائهم، مما قد يحط من
قدرهم ومن قدر والديهم أمام الناس.
ولا يقتصر أثر اللغة الاجتماعي على
اللكنة، أي طريقة النطق، ولكنه يتخطاه في كثير من الأحيان إلى اللهجة والتي تشمل
اللكنة وتتعداها إلى اختيار الألفاظ وحتى بعض القواعد التي قد يختلف بعضها من لهجة
إلى أخرى، ومن اللهجات إلى الفصحى بالطبع. ولقد شاهد جميعنا آخر خطاب للرئيس التونسي الأسبق والذي ألقاه من أجل
التأثير على الناس واحتواء المظاهرات، ولاحظ الكثيرون أنه تحدث باللهجة التونسية
بعكس خطابيه الأولين، وذلك لكي يبدو أقرب إلى الناس ويظهر لهم أنه لصيق بهم وبهمومهم.
لكن فشل الرجل في
إقناع التونسيين وهروبه بعد خطابه بيوم دليل على أن محاولة استخدام لهجة ما بقصد
إظهار الانتماء إلى فئة معينة لا تنجح دائما إذا لم يصدق المستمعون المتحدث، ولذلك
ذكر ابن خلدون في معرض حديثه عن القاف البدوية أن "من يريد التعرب والانتساب
إلى الجيل والدخول فيه يحاكيهم في النطق بها"، والمحاكاة قد تنجح أحيانا وقد
تفشل أحيانا أخرى.
ولذلك فإن من المهم أن ندرك أنه
بالرغم مما للكنات واللهجات من دلائل اجتماعية، إلا أنها بمفردها لا تكفي، فقدرة
أحدهم على محاكاة الأطباء مثلا في كلامهم ومصطلحاتهم لا تعني أنه طبيب، وهو ما يعني أن من المفترض أن تكون لكنة أحدهم أو لهجته مظهرا للانتماء لفئة أو أمة ما، لكنها في
كثير من الأحيان تكون وسيلة للانتماء بدلا من أن تعكسه، لأن بعض الناس كثيرا ما
يأخذون بالشكل دون المضمون، فينخدعون بفصاحة أحدهم أو حديثه كعلية القوم.
ثانيا، بالنسبة لكل من القاف الفصيحة والقاف البدوية فقد
رأينا كما ورد أعلاه أن ابن خلدون خلص إلى القول بأن كلتا القافين أصيلتان في اللغة
العربية، وأن القاف الفصيحة سادت لهجات المدن، والفصحى بالطبع، بينما سادت نظيرتها
البدوية كلام أهل البادية.
وإذا حاولنا التحقق من صحة ما خلص
إليه ابن خلدون فإننا نجد أن فيه قدرا كبيرا من الوجاهة، فرغم وحدة العرب اللغوية
في الجاهلية وعصور الإسلام الأولى إلا أن هذا لا يعني أنه لم يوجد تنوع بين ما سماه
علماء اللغة لغات العرب، أي لهجاتهم، فقد اختصت بعض القبائل بنطق بعض الحروف نطقا
مختلفا، وكان هناك بعض التباين بين بعض القبائل في شيء من النحو ومعاني الكلمات.
(راجع المقتضب في لهجات العرب للدكتور محمد رياض كريم).
ولقد ذكر ابن فارس والذي عاش في
القرن الرابع الهجري، أي قبل ابن خلدون بأربعمائة عام، في كتابه الصاحبي في فقه اللغة
العربية ومسائلها وسنن العرب في كلامها أن بني تميم "يلحقون القاف باللهاة
حتى تغلظ جدا فيقولون (القوم) فيكون بين الكاف والقاف، وهذه لغة فيهم".
كما نقل ابن حيان الأندلسي في
كتابه ارتشاف الضرب من لسان العرب عن أبي سعيد السيرافي (توفي ٣٦٨هـ) قوله: "رأينا
من يتكلم بالقاف بينها وبين الكاف انتهى، وهي الآن غالبة على لسان من يوجد في البوادي
من العرب، حتى لا يكاد عربي ينطق إلا بالقاف المعقودة، لا بالقاف الخالصة الموصوفة
في كتب النحويين، والمنقولة عن وصفها الخالص على ألسنة أهل الأداء من أهل القرآن".
ولقد كان ابن خلدون على علم بهذه
الأقوال، إذ أشار إلى أن "أهل العربية قد ذكروا هذه القاف القربية من
الكاف"، إلا أنه أخذ عليهم أنهم "يصرحون باستهجانه واستقباحه"، أي
الحرف، "كأنهم لم يصح عندهم أنها لغة الجيل الأول".
ويتضح من كلام ابن خلدون أنه لم
يكن يعتبر كل ما ورد في اللهجات العامية خارجا عن أصل اللغة العربية، فرغم إشارته
في أكثر من موضع في مقدمته إلى أن فساد العربية جاء بعد مخالطة الأعاجم، إلا أن كلامه
عن القاف البدوية وأصلها العربي يدل على أن إدراكه لحقيقة أن اللغة ظاهرة اجتماعية
جعله يعتمد على اتخاذ متحدثي اللغة معيارا لمعرفتها ومعرفة أصلها، ولذلك نجد أنه
استنتج من استخدام أهل البادية "كلهم شرقا وغربا" القاف البدوية أنها
أصيلة وليست مستحدثة، إذ يصعب أن يكون وجودها في كلامهم صدفة وهم يعيشون بعيدا عن
بعضهم، فهل اجتمعوا من شرق ومن غرب وقرروا هجر القاف الفصيحة واستبدالها بنظيرتها
البدوية مثلا؟
ولا يختلف الأمر كثيرا اليوم عن
عصر ابن خلدون، فالقاف البدوية رغم عدم استخدامها في الفصحى موجودة بنسب متفاوتة
في كل الدول الدول العربية، إذ تسود لهجات بعض الدول، وتكون على الهامش في البعض
الآخر، وهو ما يؤكد أنها أصيلة في اللغة، إذ يكاد يستحيل أن يتواطأ مستعمليها من
المحيط إلى الخليج على هجر القاف الفصيحة وإحلال نظيرتها البدوية محلها، وهو ما
يعني أنها كانت جزءً لا يتجزأ من كلام العرب الذين هاجروا واستوطنوا الأقطار التي
سادت فيها.
وإذا طبقنا منهج ابن خلدون على
جوانب أخرى من لهجات العرب المعاصرة فسنجد الكثير من المشتركات التي يصعب تفسيرها
دون النظر إلى تاريخ الناطقين بالعربية في بلاد العرب، فكلمة "ماذا" في
الفصحى مثلا تستبدل ب"شنو" في العراق وبعض دول الخليج، وتحل محلها
"وش" أو "أيش" في السعودية، ثم تعاود "شنو" الظهور
في السودان. وينطبق ذات الشيء على "شو" الشائعة في الإمارات وفي بلاد
الشام. أما كلمة "ماشي" بمعنى "لا يوجد" فنجدها في اليمن وفي
المغرب.
ومن الملاحظ في هذه الأمثلة
وفي الكثير غيرها من المشتركات في لهجات العرب المعاصرة أنها مستخدمة في لهجات غير
متصلة جغرافيا، مما يعزز القول بأنها ليست مستحدثة، بل هي قديمة وأصيلة حتى وإن كانت خارج نطاق الفصحى المتداولة في الماضي أو في الحاضرأو في كليهما. وقد يكون بعض تلك المشتركات مما
استحدث لاحقا، أي بعد عصر الفتوحات، ثم انتقل مع من هاجر من قطر إلى آخر، فالهجرات
لم تقتصر على عصور الإسلام الأولى.
ولا ينافي ذلك أن هناك بعض الظواهر
اللغوية التي نجدها في كل لهجات العرب الحالية تقريبا رغم أنها لم تكن توجد عند
العرب في الجاهلية وفي عصر صدر الإسلام، فلقد اختفت جل مظاهر الإعراب من الكلام
الدارج منذ زمن بعيد، وانحسرت إن لم تكن قد تلاشت صيغ المثنى في الأفعال، مما قد
يشير إلى أن هذه التغيرات راجعة إلى البنية الداخلية للغة العربية وإلى طبيعة
اللغات عامة.
يتضح لنا إذن أن دراسة تاريخ العرب
ولهجاتهم وهجراتهم منذ عصر الفتوحات وحتى الحاضر من أكثر ما يمكن أن يساعدنا على
فهم أصول اللهجات العربية الحالية، وذلك بالطبع دون إغفال دراسة تاريخ سكان البلاد
العربية قبل أن يحل العرب فيها.
كما يتضح لنا أن دراسة تاريخ
اللغات واللهجات دون دراسة الناطقين بها في الماضي والحاضر ودون معرفة طبيعة
مجتمعاتهم كثيرا ما يجعلنا نقف حائرين عاجزين عن تفسير الكثير من جوانب اللغة
المتعددة.
ولا ينبغي أن تكون دراسة اللهجات
ترفا أو هواية يمارسها الشغوف باللغة، بل يجب أن تكون جزءً أصيلا من دراسة التاريخ
الذي يفسر حاضرنا ويسهل لنا التخطيط لمستقبلنا.
وعلى سبيل المثال فإن حقيقة اشتراك
لهجات العرب المعاصرة أو بعضها في بعض مخارج الحروف أو الكلمات أو القواعد التي لا
توجد في الفصحى المتداولة تثبت أن اللغة العربية لم تنتشر خارج جزيرة العرب بفرمان أو مرسوم
فرضها على الناس كما يحاول البعض أن يصور، إذ هي انتشرت مع هجرات القبائل التي
أثرت لهجاتها على عربية الأقطار التي ارتحلت إليها. وهذا ما أشار إليه الجاحظ
(توفي ٢٥٥هـ) في أوائل كتابه البيان والتبيين حين قال: "وأهل الامصار إنما يتكلمون
على لغة النازلة فيهم من العرب، ولذلك تجد الاختلاف في ألفاظ من ألفاظ أهل الكوفة والبصرة
والشام ومصر". (راجع المقال الأول في سلسلة خلدونيات لغوية لفهم أهمية العنصر
البشري في انتشار اللغات).
خاتمة
لم يهتم العرب في الماضي بدراسة
اللهجات كثيرا، فلقد كان جل جهدهم منصبا على الفصحى، لعظم أهميتها في فهم الكتاب
والسنة، خصوصا بعد التغيرات التي طرأت على اللسان العربي بعد عصر الفتوحات. ولذلك
كان القليل الذي كتب عن العامية يهدف إلى إيضاح الفروق بينها وبين الفصحى من أجل
التمكن من الفصحى وإتقانها.
وما إن جاء العصر الحديث حتى بدأت
مجموعة من المستشرقين الغربيين بدراسة اللهجات العربية وتدوين قواعدها، وهو أمر
مستمر حتى يومنا هذا وإن تراجع دور المستشرقين بعد حل محلهم علماء اللغة الغربيين
المتخصصين في اللغة العربية.
ولأن دراسة الغربيين للهجات ارتبطت
إلى حد كبير بمحاولة تقعيد اللهجات الدارجة والتشجيع على هجر الفصحى فقد أضحت في
يومنا هذا سيئة السمعة، لعلم الغيورين على الفصحى أن الهدف من تلك الدراسات الإحلال
وليس الإثراء. (للاستزادة راجع كتاب تاريخ الدعوة إلى العامية وآثارها في مصر
للدكتورة نفوسة زكريا سعيد).
ولذلك فإن من الضروري ألا تترك
دراسة اللهجات لتكون مرتعا لمن يضيقون ذرعا بالفصحى ولمن سار على نهجهم من
الانهزاميين والشعوبيين الجدد، إذ ينبغي أن يوضع البحث في اللهجات المعاصرة في
سياقه الصحيح، بحيث يكون الهدف منه هو فهم علاقة اللهجات الدارجة ببعضها البعض،
وفهم كيفية انتشارها خارج جزيرة العرب بالنظر إلى تاريخ هجرات العرب واللهجات التي
جلبوها معهم أينما حلوا وتفاعلهم مع سكان البلاد التي ارتحلوا إليها ومع لغاتهم،
وفهم دور اللهجات في مجتمعاتنا المعاصرة وتحديد مجالاتها وقياس مدى تسربها إلى مجالات
الفصحى ومدى خطورة ذلك.
أما دراسة اللهجات بغرض فرضها محل
الفصحى فلن تكون سوى مضيعة للوقت والجهد اللذان لا ينبغي بذلهما فيما لا يجدي،
فالفصحى لها مجالاتها كما للهجات مجالاتها، وكلا منهما يؤدي أدوارا تختلف عن أدوار
الآخر، فلا ينبغي أن يطغى أحدهما على الآخر، واللغة بجميع أوجهها ليست في الأصل من
الأهداف بل هي من الوسائل، ولا يحبذ للمشتغلين بها التوسع فيها لدرجة اللغو، لأنهم،
كما يتسائل ابن خلدون، إذا "قطعوا العمر في الوسائل، فمتى يظفرون
بالمقاصد؟".