اشتهر
ابن خلدون بأنه مؤسس علم
الاجتماع، حيث تحدث في مقدمته الشهيرة عن العديد من الأمور التي تتصل بقيام
الدول والعمران البشري وصعود الحضارات واندثارها. وقد اهتم الباحثون وما
زالوا بما كتبه
ابن خلدون عن التاريخ والسياسة والاقتصاد والعلوم وغير ذلك من المواضيع
التي احتوت
عليها المقدمة، إلا أن موضوع اللغة وآراء ابن خلدون فيها لم يحظ بالاهتمام
الكافي
كما حظيت المواضيع الأخرى. ولذا فسوف نتحدث عن آراء ابن خلدون اللغوية في سلسلة
مقالات محاولين شرحها وتقييمها ومعرفة كيفية الاستفادة منها في عصرنا الحالي.
____________________________________________________________________
تعد قدرة الأطفال على اكتساب اللغة من محيطهم دونما تلقين يذكر من أجل النعم التي أنعم الله بها على الإنسان، فمحيط الطفل داخل المنزل وخارجه هو المنبع الذي تفيض منه اللغة عليه فيكتسبها دون الحاجة إلى تعليم أو شرح أو أي شيء من قبيل ما يحتاجه الكبار حين يتعلمون لغة أجنبية.
ولقد أكد ابن خلدون في مقدمته أن الطريقة الأنجع للتمكن من الفصحى هي مخالطتها، لكن السؤال الذي يطرح نفسه هنا هو:
____________________________________________________________________
تعد قدرة الأطفال على اكتساب اللغة من محيطهم دونما تلقين يذكر من أجل النعم التي أنعم الله بها على الإنسان، فمحيط الطفل داخل المنزل وخارجه هو المنبع الذي تفيض منه اللغة عليه فيكتسبها دون الحاجة إلى تعليم أو شرح أو أي شيء من قبيل ما يحتاجه الكبار حين يتعلمون لغة أجنبية.
وقد وصف ابن خلدون عملية الاكتساب تلك
في فصل من مقدمته عنونه ب" في أن اللغة ملكة صناعية"، ذكر فيه أن
"الملكات لا تحصل إلا بتكرار الأفعال، لأن الفعل يقع أولا وتعود منه للذات
صفة، ثم يتكرر، فيكون حالا. ومعنى الحال أنها صفة غير راسخة. ثم يزيد التكرار،
فيكون ملكة، أي صفة راسخة. فالمتكلم من العرب حين كانت ملكة اللغة العربية موجودة
فيهم يسمع كلام أهل جيله وأساليبهم في مخاطباتهم وكيفية تعبيرهم عن مقاصدهم كما
يسمع الصبي استعمال المفردات في معانيها فيلقنها أولا. ثم يسمع التراكيب بعدها،
فيلقنها كذلك. ثم لا يزال سماعهم لذلك يتجدد في كل لحظة ومن كل متكلم، واستعماله
يتكرر، إلى أن يصير ذلك ملكة وصفة راسخة، ويكون كأحدهم".
وواضح من كلام ابن خلدون أنه يصف
العصور الأولى التي سبقت استشراء اللحن في اللغة، والذي أدى إلى انقسام اللغة
العربية إلى قسمين رئيسيين أولهما الفصحى وثانيهما اللهجات الدراجة التي أصبحت هي
لغة المحيط التي يكتسبها الطفل اكتسابا طبيعيا ويربى عليها.
ولأن الفصحى قد ابتعدت عن البيت
والشارع واختصت بمجالات محددة كالتعليم وكتابة الوثائق الرسمية والكتب والرسائل
العلمية فقد صار من اللازم إيجاد طرائق لإتقانها رغم قلة استخدامها في المحيط
العام وابتعداها عن أغلب ما هو رسمي.
ولقد أكد ابن خلدون في مقدمته أن الطريقة الأنجع للتمكن من الفصحى هي مخالطتها، لكن السؤال الذي يطرح نفسه هنا هو:
ما هي منابع الفصحى التي ينبغي النهل
منها لإتقانها؟
أجاب ابن خلدون عن هذا السؤال في أكثر
من موضع في مقدمته، حيث أشار إلى منابع نسميها في هذا المقال بالعامة، وأخرى
نسميها بالخاصة، وسنتناولهما في نقطتين، وهما كالتالي:
أولا، تحدث ابن خلدون عن منابع عامة
للغة، الهدف من النهل منها هو إتقان الفصحى عامة بحيث لا تكون اللهجات العامية
مسيطرة على ألسنتنا، وبحيث نستطيع التحدث بالفصحى بنفس الطلاقة التي نتحدث بها
اللهجة التي ربينا عليها.
ولقد رأى ابن خلدون أن على من أراد أن
يكتسب سليقة الفصحى ويتحدث بها كالعرب الأوائل أن " يأخذ نفسه بحفظ كلامهم القديم الجاري على
أساليبهم من القرآن والحديث، وكلام السلف، ومخاطبات فحول العرب في أسجاعهم
وأشعارهم، وكلمات المولدين أيضا في سائر فنونهم حتى يتنزل لكثرة حفظه لكلامهم من
المنظوم والمنثور منزلة من نشأ بينهم ولقن العبارة عن المقاصد منهم".
والشاهد في هذا الكلام أن من الأهمية
بمكان ألا يقتصر مخالط الفصحى على منبع واحد أو منبعين من منابعهما، إذ ينبغي أن
ينهل من مختلف المنابع حتى تصبح الفصحى طيعة في متناوله يستخدمها بسهولة ويسر
ليعبر بها عن مقاصده.
وقد أشار ابن خلدون إلى أهمية النهل
من منابع متنوعة للفصحى في موضع آخر من المقدمة، وذلك في الفصل الذي عقده بعنوان
" في تعليم الولدان واختلاف مذاهب الأمصار الإسلامية في طرقه"، والذي
استعرض فيه طرق التعليم ومواده في كل من الأندلس والمغرب وإفريقية، ولاحظ أن الطلاب
في المغرب وبدرجة أقل في إفريقية لا يتمكنون من الفصحى في الأغلب لأن المعلميمن
يركزون على القرآن ويهملون باقي منابع اللغة الأخرى، والقرآن "لا ينشأ عنه في
الغالب ملكة لما أن البشر مصروفون عن الإتيان بمثله. فهم مصروفون كذلك عن
الاستعمال على أساليبه، فلا تحصل لصاحبه ملكة في اللسان العربي. وحظه الجمود في
العبارات، وقلة التصرف في الكلام".
أما أهل الأندلس فلم يكونوا يقتصرون
على القرآن بل كانوا "يخلطون في تعليمهم للولدان رواية الشعر في الغالب،
والترسيل"، ولذلك كانوا أقدر على إتقان الفصحى من أهل المغرب وإفريقية، مما
يدل على أهمية نهل طالب الفصحى من عامة منابعها ومن مختلف مصادر كلام العرب إلى أن
"يرتسم في خياله المنوال الذي نسجوا عليه تراكيبهم، فينسج هو عليه، ويتنزل
بذلك منزلة من نشأ معهم وخالط عباراتهم في كلامهم حتى حصلت له الملكة المستقرة في
العبارة عن المقاصد على نحو كلامهم".
ثانيا، أشار ابن خلدون في مقدمته إلى
أن إتقان الفصحى بنفس درجة إتقان العامية لا يكفي لاستخدامها، أي الفصحى، للحديث
عن أي شيء، وذلك لأن "لكل فن من الكلام أساليب تختص به وتوجد فيه على أنحاء
مختلفة".
وعلى سبيل المثال فقد لاحظ ابن خلدون
أن نظم الشعر"لا تكفي فيه ملكة الكلام العربي على الإطلاق، بل يحتاج بخصوصه
إلى تلطف ومحاولة في رعاية الأساليب التي اختصته العرب بها وباستعمالها فيه".
ولذلك فقد رأى أنه من الضروري لمن أراد أن يصبح شاعرا أن يخالط الشعر ويحفظ الكثير
منه حتى يستوعب أساليبه التي تختلف عن أساليب فنون الكلام الأخرى ويكون ملكة خاصة بفصحى الشعر.
ولقد عرف ابن خلدون الأسلوب على أنه
" المنوال الذي تنسج فيه التراكيب، أو القالب الذي ترص فيه"، وبين، كما
ورد أعلاه، أن إتقان الفصحى يختلف عن معرفة الأسلوب الذي يختص به مجال ما، فقد
يكون أحدهم ضليعا بالفصحى المستعملة في علم ما وقاصرا في الفصحى السائدة في علم
آخر. ولقد ضرب ابن
خلدون مثلا على ذلك بنفسه، حيث قال:
" ذاكرت يوما صاحبنا أبا عبد
الله بن الخطيب، وزير الملوك بالأندلس، وكان الصدر المقدم في الشعر و الكتابة،
فقلت له: أجد استصعابا علي في نظم الشعر متى رمته، مع بصري به وحفظي للجيد من
الكلام من القرآن والحديث وفنون من كلام العرب، وإن كان محفوظي قليلا. و إنما
أتيت، والله أعلم، من قبل ما حصل في حفظي من الأشعار العلمية والقوانين التأليفية،
فإني حفظت قصيدتي الشاطبي الكبرى والصغرى في القراءات في الرسم واستظهرتهما،
وتدارست كتابي ابن الحاجب في الفقه والأصول وجمل الخونجى في المنطق، وكثيرا من
قوانين التعليم في المجالس، فامتلأ محفوظي من ذلك و خدش وجه الملكة التي استعددت
لها بالمحفوظ الجيد من القرآن و الحديث و كلام العرب، فعاق القريحة عن بلوغها.
فنظر إلي ساعة معجبا، ثم قال: لله أنت، هل يقول هذا إلا مثلك؟".
ولم يكتف ابن خلدون بالحديث عن نفسه
مثالا لمن يتقنون الفصحى عامة ولا يجيدون استخدام سوى بعض أساليبها، حيث أعطى
مثالا آخرا محددا عن الاختلاف بين أسلوب الشعراء وأسلوب الفقهاء، فقال:
"أخبرني صاحبنا
الفاضل أبو القاسم بن رضوان، كاتب العلامة بالدولة المرينية، قال: ذاكرت يوما
صاحبنا أبا العباس بن شعيب، كاتب السلطان أبي الحسن، وكان المقدم في البصر باللسان
لعهده، فأنشدته مطلع قصيدة ابن النحوي، ولم أنسبها له، وهو هذا:
لم أدر حين وقفت
بالأطلال ما
الفرق بين جديدها و البال
فقال لي على البديه: هذا شعر فقيه، فقلت له: ومن أين لك ذلك؟ قال: من قوله
ما الفرق، إذ هي من عبارات الفقهاء وليست من أساليب كلام العرب، فقلت له: لله
أبوك، إنه ابن النحوي".
يتبين لنا إذن أن هناك منابع خاصة لإتقان الفصحى المستخدمة في مجال معين من
مجالات الحياة المختلفة، وأن مخالطة الكلام المستخدم في مجال ما هو ما
يمكن المخالط من استيعاب الأسلوب المطرد فيه، وأنه هناك فرقا بين الفصحى العامة
والتي هي عكس اللهجات الدارجة، وبين أنماط مختلفة من الفصحى تتمايز فيما بينها
باختلاف أساليبها.
تطبيقات
بعد أن تحدثنا
عن منابع الفصحى وصنفناها بناءً على كلام ابن خلدون، سنحاول فيما يلي أن نأتي على
ذكر شيء من الشواهد والفوائد التي يمكن استقائها مما ورد أعلاه، قاصرين الحديث على
نقطتين، وهما كما يلي:
أولا، إذا نظرنا
في النقطة الأولى التي أوردنا فيها كلام ابن خلدون عن أهمية مخالطة نصوص متنوعة من
الفصحى فسنجد أن النهل من منابع الفصحى المتعددة يعد بالفعل أمرا حيويا لكل من رام
امتلاك ناصيتها، لأن الاقتصار على منبع أو منبعين فقط يحد من قدرتنا على اكتساب مفردات
وتعابير جديدة وعلى ترسيخ قدرتنا على الالتزام بحركات الإعراب عند الحديث.
لكن السؤال الذي
يطرح نفسه هنا هو: هل ثمة منابع أهم من الأخرى؟
الحقيقة أن
الإجابة عن هذا السؤال تتطلب التذكير بأن الهدف الرئيسي من مخالطة الفصحى هو
التخلص من تأثير العامية على اللسان، وهو ما يدفعنا إلى إعادة صياغة السؤال
كالتالي:
ما هي نصوص
الفصحى الأقدر على تخليص مخالطها من تأثير العامية؟
من الصعب بالطبع الإجابة على هذا السؤال دون دراسة ميدانية مفصلة، لكننا
يمكن أن نقول أن مدارسة القرآن والحديث والنصوص المرتبطة بهما تجعلنا أقرب إلى استخدام
حركات الإعراب استخداما صحيحا، لأن قدسيتها تجعلنا حريصين على نطقها نطقا
صحيحا كما وردت ودون أي خطأ وإن كان غير مقصود.
لكن إتقان الفصحى لا يقتصر على الإعراب فقط، بل يتعداه إلى العلم بمفرداتها
ومعانيها وتراكيبها وأسالبيها وما إلى ذلك مما يخرج عن نطاق علم النحو والذي هو
جزء من علوم العربية. ولذلك فإن على من رام الفصحى أن ينهل من منابعها المختلفة
حتى يتقنها من كافة جوانبها، فحتى وإن كان أحدهم متقنا للفصحى من ناحية النطق بها
دون لحن، فإن قدرته على وصف مباراة كرة قدم مثلا مرتبطة بمدى معرفته بالمفردات
والمصطلحات وربما الأساليب المستخدمة في ذلك المجال.
وعليه فإن قال قائل أن نصوص القرآن والسنة وما يتعلق بهما ليست كافية
لتقويم اللسان، فإننا نقول أن هذا صحيح، لكننا نقول أيضا أن دارس العلوم الشرعية
الجاد بطبيعة تخصصه لا يقتصر عليها، بل يلزمه مخالطة العديد من متون العلوم
الأخرى، فتضعه مخالطته نصوص القرآن والسنة على أول طريق اللسان الفصيح، فتكون
بمثابة الأساس، وتزيد مخالطة النصوص الأخرى من قدرته على استخدام الفصحى بطلاقة
ودون لحن، فتكون بمثابة المرسخ. ولربما كان هذا أحد أهم أسباب قدرة علماء الدين
على الحديث بعربية تقل فيها لدرجة كبيرة الأخطاء في الإعراب وحركاته، خصوصا إذا ما
قارناهم بغيرهم.
وبناءً على ذلك يمكننا أن نقول أن إتقان الفصحى يستلزم أولا تقويم اعوجاج اللسان
وتخليصه من تأثير العامية من الناحية الإعرابية، وهو ما يتأتى بمخالطة نصوص الكتاب
والسنة وما يرتبط بهما مما له طابع قدسي، ويتبع ذلك مخالطة أنماط الفصحى الأخرى من
نثر وشعر للتمكن من جوانب الفصحى الأخرى واستكمال تقويم اللسان.
ثانيا، بالنسبة للنقطة الثانية التي أشار فيها ابن خلدون إلى أن كل فن من
فنون الكلام له أساليب معينة فإن نظرة خاطفة على استخدام اللغة في مجالات مختلفة
تثبت لنا أن هذا الكلام صحيح، إذ أن لكل مجال قوالب لغوية محددة تشيع فيه وتميزه عن
غيره. وإذا نظرنا إلى لغة الإعلام مثلا فإننا نجد أن بها عبارات شائعة من قبيل:
١- صرح مصدر مسؤول بوزارة الداخلية...
٢- أفادت التقارير الواردة من...
٣- وفي خبر عاجل وردنا للتو...
ولا تقتصر تلك القوالب الجاهزة على مفردات أو عبارات محددة فقط، بل قد تدخل
أيضا في اختيار الأزمنة، فنجد مثلا أن عنوان الخبر قد يكون في المضارع، بينما
الخبر نفسه في الماضي.
مثال
العنوان: الرئيس يطيح بمستشاريه
نص الخبر: أفادت وكالة الأنباء ال... بأن الرئيس ال... أصدر قرارا بإعفاء
كل من...
ولا يعني اختصاص كل مجال بأنماط معينة من اللغة أنه لا مشترك بينها، فاللغة
في نهاية المطاف واحدة، وتفرد مجال ما بقوالب معينة لا يعني أن كل اللغة المستخدمة
فيه مختلفة عما هو مستخدم في مجالات أخرى، لأن تلك القوالب جزء مما هو شائع في ذلك
المجال وليست كله.
ومن نافلة القول أن اكتساب ملكة الكتابة أو الحديث بالفصحى عن مجال بعينه
عملية يسبقها اكتساب "ملكة الكلام العربي على الإطلاق"، أي إتقان الفصحى
عامة، إذ هي بمثابة الأساس الذي يجب أن يوجد حتى تصبح عملية اكتساب أسلوب متخصص
يسيرة.
ومما يلحظه قارئ كتب التراث أن اللغة المستخدمة فيها، بغض النظر عن
مواضيعها، مختلفة بعض الشيء عن فصحانا المعاصرة، والاختلاف ليس في اللغة بقدر ما
هو في الأساليب، ولربما يعود ذلك إلى اختلاف نمط حياتنا عن نمط حياة من سبقنا،
ولكن أيا كانت الأسباب فإن من المهم أن نشجع النشئ وحتى الكبار على مخالطة كتب
التراث وعدم الاقتصار على ما يكتب بالفصحى المعاصرة فقط، لأن ذلك من شأنه أن يجعل
الأساليب القديمة بمفرداتها وتراكيبها مألوفة لدينا ليسهل بذلك اتصالنا بماضينا
ولكي لا تكون كتب التراث مثلا للعربية المقعرة التي يتخذها البعض مادة للتندر.
خاتمة
تكلمنا في مقال سابق عن أن مخالطة الفصحى هي السبيل الأمثل لإتقانها،
وحاولنا في هذا المقال أن نبين المنابع التي ينبغي النهل منها لتحقيق تلك
المخالطة، لكن يبقى سؤال مهم ينبغي الإجابة عليه وهو:
ما هي الطريقة المثلى لمخالطة الفصحى؟
إذا عدنا إلى ما قاله ابن خلدون عن كيفية اكتساب ملكة الفصحى فسنجد أنه حدد
الحفظ طريقة مثلى لذلك حين قال أن "وجه التعليم لمن يبتغي هذه الملكة
ويروم تحصيلها أن يأخذ نفسه بحفظ كلامهم القديم الجاري على أساليبهم".
ولم يذكر ابن خلدون لماذا اختار الحفظ سبيلا أمثلا لمخالطة الفصحى، لكننا
إذا فتشنا في مقدمته لوجدناه يقول في موضع آخر أن "السمع أبو الملكات
اللسانية"، وهو ما يعني أن اختياره راجع والله أعلم إلى أن التأكد من حفظ نص
ما يستلزم قراءته بصوت عال ولو كان المرء بمفرده، مما ينقل النص من خانة المقروء
فقط إلى خانة المقروء والمسموع والمنطوق.
لكن مخالطة الفصحى لا تؤتي أكلها بالحفظ فقط حسب ما يرى ابن خلدون، إذ
ينبغي الانتقال بعد الحفظ وربما بالتزامن معه إلى مرحلة الاستعمال والتعبير عن
المقاصد حتى ترسخ الملكة المكتسبة ويصبح جريانها على اللسان تلقائيا، "وعلى
قدر المحفوظ وكثرة الاستعمال تكون جودة المقول المؤلف".
إذن، إذا عرفنا أن التمكن من الفصحى يستلزم مخالطتها، وأن مخالطتها تستلزم
معرفة منابعها، وأنها تكون بكثرة الحفظ والاستعمال، فماذا نحن فاعلون لنطبق ذلك في
عصرنا الحالي؟
الحقيقة أن مخالطة الفصحى في عصرنا هذا لربما تكون، على عكس ما يعتقده
البعض، أيسر من العصور السابقة، إذ يتوفر لدينا من التقنيات ما يتيح الفصحى
وبغزارة أمام الجمهور، فالصغير يسمع الفصحى منذ نعومة أظفاره في الرسوم المتحركة،
والكبار، متعلمين وأميين، يستمعون إليها في العديد من البرامج الإذاعية والمتلفزة، لا بل أننا لا نبالغ إذا قلنا أن انتشار
الحواسيب والنت جعل الفصحى في متناول كل من طلبها.
لكننا مع كثرة سماعنا الفصحى في وسائل الإعلام لا نتقنها كما يجب، أو
بالأصح، لا نتقن الحديث بها كما نتقن فهمها، والسبب في ذلك يعود إلى قلة حديثنا
بها، وهو ما يجعل استعمالها استعمالا صحيحا تلقائيا عند الحديث بها أمرا صعبا
للكثيرين منا.
ولذا فإن علينا أن نوجد السبل التي تمكننا من استخدام الفصحى وبكثرة حتى
تجري على ألسنتنا، ولعل من أنجع تلك السبل أن تكون الخطابة والإلقاء والمناظرة
موادا إلزامية في المدارس والجامعات وأن تربط بمناهج اللغة العربية حتى تحل مشكلة
الفصحى في مهدها، و"يخرج الولد من عمر البلوغ إلى عمر الشبيبة وقد شدا بعض
الشيء في العربية والشعر والتبصر بهما، وبرز في الخط والكتاب، وتعلق بأذيال العلم
على الجملة".