اشتهر ابن خلدون بأنه مؤسس علم الاجتماع، حيث تحدث في مقدمته الشهيرة عن العديد من الأمور التي تتصل بقيام الدول والعمران البشري وصعود الحضارات واندثارها. وقد اهتم الباحثون وما زالوا بما كتبه ابن خلدون عن التاريخ والسياسة والاقتصاد والعلوم وغير ذلك من المواضيع التي احتوت عليها المقدمة، إلا أن موضوع اللغة وآراء ابن خلدون فيها لم يحظ بالاهتمام الكافي كما حظيت المواضيع الأخرى. ولذا فسوف نتحدث عن آراء ابن خلدون اللغوية في سلسلة مقالات محاولين شرحها وتقييمها ومعرفة كيفية الاستفادة منها في عصرنا الحالي.
____________________________________________________________________
تحدث علماء اللغة والفلاسفة في الماضي
والحاضر عن علاقة اللغة بالفكر، واختلفوا حول تحكم اللغة ببنيتها في الفكر ومدى
ذلك التحكم، فقال بعضهم أن الفكر مستقل عن اللغة وأنها لا تتحكم فيه ولا تقيده،
وقال البعض الآخر أن اللغة التي نتحدثها تحدد نظرتنا إلى العالم وسميت تلك الفرضية
الحتمية اللغوية، واتخذ فريق ثالث موقفا وسطا بقوله أن لغة المرء تؤثر على تفكيره
ولكنها لا تتحكم فيه وسميت فرضيتهم النسبية اللغوية. (شاهد، عزيزي القارئ، هذا
الشرح المبسط لفهم الموضوع).
وبينما رفض أغلب علماء اللغة فرضية
الحتمية اللغوية التي تقول أننا سجناء داخل لغتنا، لقيت فرضية النسبية اللغوية
شيئا من القبول عند بعض الباحثين وإن كانت نتائج دراساتهم بشأنها لا تزال بعيدة عن
إثبات صحة الفرضية إثباتا مقنعا.
وحيث أن باب النقاش حول الموضوع ما
زال مفتوحا فإننا سنحاول في هذا المقال معرفة وتحليل ما ذكره ابن خلدون عنه علنا
نجد عنده جديدا.
يقول ابن
خلدون في فصل بعنوان "في أن صناعة النظم و
النثر إنما هي في الألفاظ لا في المعاني":
"المعاني موجودة عند كل أحد، وفي طوع كل فكر منها ما يشاء ويرضى، فلا يحتاج إلى
تكلف صناعة في تأليفها. وتأليف الكلام للعبارة عنها هو المحتاج للصناعة، كما قلناه،
وهو بمثابة القوالب للمعاني. فكما أن الأواني التى يغترف بها الماء من البحر منها آنية
الذهب والفضة والصدف والزجاج والخزف، والماء واحد في نفسه، وتختلف الجودة في الأواني
المملؤة بالماء باختلاف جنسها لا باختلاف الماء، كذلك جودة اللغة وبلاغتها في الاستعمال
تختلف باختلاف طبقات الكلام في تأليفه باعتبار تطبيقه على المقاصد، والمعاني واحدة
في نفسها. وإنما الجاهل بتأليف الكلام وأساليبه على مقتضى ملكة اللسان إذا حاول العبارة
عن مقصوده ولم يحسن بمثابة المقعد الذي يروم النهوض ولا يستطيعه لفقدان القدرة عليه".
إذا حاولنا تحليل كلام ابن خلدون، على قصره،
ورغم أنه يتكلم عن اللغة أساسا وليس عن الفكر، فمن الممكن أن نستخرج نقطتين:
أولا، يرى ابن خلدون أن اللغة لا تتحكم في
الفكر ولا تؤثر فيه، "فالمعاني موجودة عند كل أحد، وفي طوع كل فكر منها ما يشاء
ويرضى"، وهو ما يعني أن المرء ليس أسير لغته، إذ له أن يعمل
عقله ويخرج بأفكار قد تكون عبقرية وقد تكون غير ذلك دون أن يكون للغة دور مقيد في ذلك.
ثانيا، رغم أن عملية التفكير ليست مرتبطة
باللغة عند ابن خلدون، إلا أن عملية التعبير عما ينشأ من أفكار يلزمها استعمال
اللغة، والتي هي "بمثابة القوالب للمعاني". ومعرفة هذه القوالب اللغوية
هي "ملكة اللسان"، والتي نكتسبها من مجتمعنا قراءة وسماعا، وهو ما يعني
أنه يلزمنا التعبير عن أفكارنا باستعمال ما درج الآخرون على استعماله حسب المقام،
وهذا هو معنى القوالب.
إذن، نستنتج من كلام ابن خلدون أن اللغة لا
تحدد أفكارنا، وإنما تحدد كيفية تعبيرنا عنها، "فصناعة الكلام نظما ونثرا
إنما هي في الألفاظ لا في المعاني".
تقييم
قد يرى البعض في الرأي الخلدوني عن علاقة
اللغة بالفكر شيئا من التناقض، فصاحب المقدمة يقول أن اللغة ليست مقيدة بالفكر،
لكنه في الوقت ذاته يرى أن اللغة بمثابة القوالب التي تُصب فيها الأفكار، فكيف إذن
يكون الفكر غير مقيد باللغة؟
الحقيقة أن الإجابة عن هذا السؤال تستوجب
استحضار أمر مهم ما انفك ابن خلدون يذكره في مواضع مختلفة من مقدمته، ألا وهو
طبيعة اللغة الاجتماعية، فاللغة ملكة اجتماعية بامتياز، ووظيفتها الأساسية هي
تمكين الناس من التواصل، فهي للمجتمع ومنه وإليه. ولأنها كذلك، فإن ما يجدِّ
من أفكار يعبَّر عنه بكلام يفهمه الناس، فما فائدة الفكرة الجديدة إن لم تصل عقول
الناس ولم تدركها أفهامهم؟
وقد تكون طبيعة اللغة الاجتماعية وكونها أداة
تواصل السبب الرئيسي الذي يدفع البعض إلى القول بأن اللغة تقيد الفكر، فقد تدور في
خلد المرء من الأفكار "ما يشاء ويرضى" كما يقول ابن خلدون، لكنه إذا
أراد التعبير عنها تحتم عليه تأطيرها بلغة يفهمها الناس، فتبدو كأنها مقيدة باللغة
رغم كونها ليست كذلك.
وليس شرطا أن يعبَّر عن الأفكار الجديدة
بكلمات يستعملها الناس، فقد يصَّك مصطلح أو تستعار كلمة من لغة أخرى لهذا الغرض،
لكن مدى تناسبها مع نسق اللغة وروحها هو ما يحدد إمكانية اندماجها في جسد اللغة
ووجدان متحدثيها أو طائفة منهم إن كانت الكلمة مصطلحا خاصا.
ثم إننا إذا ألقينا نظرة خاطفة على بعض لغات
العالم فسنجد أن من الصعب التسليم بأن اللغة توجه الفكر، ففي العربية نقول أنتَ
وأنتِ، بينما لا يوجد في لغات أخرى كثيرة سوى ضمير واحد للمخاطب المفرد، فهل يؤثر
ذلك أحيانا على متحدثي تلك اللغات فلا يدركون أرجلا أم امرأة يخاطبون؟؟
وهناك من اللغات، ومنها العربية، ما تكون
فيها الأسماء إما مذكرة أو مؤنثة، سواء كان المسمى عاقلا أو غير عاقل، فالليل
والقمر والقلب أسماء مذكرة في لغتنا، والنار والحرب والصحراء مؤنثة، فهل يعني هذا
أننا نضفي على الأولى صفات الذكورة وعلى الثانية صفات الأنوثة؟
إذن، بالعودة إلى كلام ابن خلدون فإننا نقول
أن اللغة عنده تقولب الأفكار ولا تقيد الفكر أو تؤثر فيه، وبدون تلك القولبة يكاد
ينتفي الهدف الأساسي الذي وجدت من أجله اللغة، وهو التواصل.
استطراد
شاهدت ذات مرة مقابلة قصيرة مع رجل عجوز في
أحد شوارع مصر بدأتها المذيعة بسؤال الرجل عن ضعف تمثيل المرأة في البرلمان، وهو
ما دفع الرجل إلى الرد بشيء من الغضب قائلا أنه يريد الحديث عن حافلات النقل العام
بدلا من الموضوع الذي طرحته المذيعة!
ورغم أن الرجل استعمل في بداية حديثه كلمة لا
تقال على التلفاز أمام الملأ، إلا أن رده جسد مدى انفصال الفكرة التي طرحتها
المذيعة عن هموم الرجل والناس عامة.
ولذلك فإن اللغة وإن كانت تقولب الأفكار ولا تقيد
الفكر كما استنبطنا من كلام ابن خلدون، فإننا لا يمكن أن نتجاهل أن لكل لغة فضائها
الخاص الذي تغلب عليه أفكار أهلها وثقافتهم، فالخطاب السائد في مجتمع ما يحدد
الأفكار التي يكتب لها أن تنتشر وتسود، ويحدد أيضا ما لا يمكن أن يقبله المجتمع وإن
جيشت له جحافل الكتاب والمذيعين.
ونحن اليوم نجد أن مسألة حقوق المرأة مثلا
والتي تطرح باستمرار في كثير من وسائل إعلامنا منذ عشرات السنين لا تلقى تجاوبا من
رجل الشارع العادي كما شاهدنا في المثال أعلاه، لأن الكثيرين يشعرون أنها فكرة
دخيلة مستجلبة من سياق مختلف غريب عنهم، فهي لا تنتمي إلى فضاء لغتهم وإن عُبِّر
عنها بها.
إذن، سواء أكانت اللغة ذاتها ببنيتها
وقواعدها لا تؤثر على الفكر، وهو ما نعتقده، أو كانت تؤثر، فإن من المؤكد أن
المحتوى السائد فيها له أثر مهم على الفكر.
خاتمة
من الصعب لموضوع مثل موضوع اللغة والفكر أن
نوفيه حقه في سطور معدودات، فالعقل البشري الذي أبدعه الخالق سبحانه وتعالى أعقد
مما نتصور، ومعرفتنا بتفاصيله لا تعد شيئا مقارنة بما يجري فيه من عمليات على
مستوى عال من الدقة والتعقيد والسرعة.
لكننا مع ذلك نقول أن من المهم جدا أن ندرك
أن اللغة سواء كانت تؤثر في الفكر أو لا تؤثر، فإن المجتمع الذي يتحدثها ويحدد
شكلها يؤثر في الفكر، ويؤثر أيضا في إمكانية وكيفية التعبير عما ينتجه عقل ما من
أفكار.
ولذلك فإن من الضروري للباحث في علاقة اللغة بالفكر ألا ينسى أن
اللغة نتاج مجتمع، وأنه لا يمكن النظر إليها مجردة، فهي إن لم تكن لازمة للتفكير
فإنها لازمة للتعبير، وهي وإن كانت كما عرفها ابن خلدون "عبارة المتحدث عن
مقصوده"، إلا أنها في الوقت ذاته "في كل أمة حسب اصطلاحاتهم".
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق