١- في عام ٢٠٠٥ منح الدكتور ريتشارد دول مناصفة مع الدكتور ريتشارد بيتو جائزة الملك فيصل العالمية في الطب تقديرا لأبحاثها عن الأمراض التي يسببها التدخين. وحسب اللجنة المانحة فإن الرجلين كانا "أول من أثبت بشكل قاطع وجود صلة وثيقة بين التدخين وأمراض الأوعية الدموية والسرطان وغيرها، كما كانت بحوثهما حافزاً للعديد من الدراسات الأخرى بما فيها استخدام الأحياء الجزيئية لإثبات العلاقة السببية بين التدخين والسرطان".
والحق يقال أن الرجلين قاما بالعديد من الأبحاث عن الآثار السلبية للتدخين على الصحة، ولكنهما لم يكونا أول من أثبت أن للتدخين ضررا على الصحة، إذ أن الأطباء الألمان أثبتوا في العهد النازي العلاقة بين التدخين وأمراض كالسرطان وغيره. بينما لم يبدأ ريتشارد دول أبحاثه إلا مع بداية الخمسينات.
٢- إذا سألت أي شخص عن نشأة الإنترنت فإنه سوف يخبرك أنه نشأ في أمريكا. وهذا صحيح، ولكن ما لا يعرفه يعرفه الكثيرون، حتى بعض المتخصصين في علوم الحاسوب، أن الصيغ الأساسية، أو البرتوكولات، التي بني على أساسها الإنترنت بشكله الحالي صممت في فرنسا تحت قيادة عالم يسمى لويس بوزان. وقد تلقف هذه الصيغ عالمان أمريكيان وهما روبرت كان وفنت سرف وطوراها حتى نشأ الإنترنت وأصبح فنت سيرف يعرف بأبي الإنترنت. أما بوزان فأصبح إسما قلما يسمع به حتى طلاب علوم الحاسوب. وإذا راجعت موسوعة ويكيبيديا فإنك تجد السيرة الذاتية لسيرف متوفرة في أربع وعشرين لغة، بينما سيرة بوزان متوفرة في ثلاث لغات فقط.
ولست هنا بصدد أن أبخس الأمريكان أو البريطانيين حقهم أو أن أدافع عن الألمان أو الفرنسيين، ولكني أريد أن أنبه إلى أن التبعية للثقافة الأنجلوساكسونية تجعلنا ندور في فلكها حتى لا نرى العالم إلى بعيون أنجلوأمريكية. ولست هنا أتهم الأمريكان أو البريطانيين بالسطو على أعمال غيرهم، فالدكتور دول أشار في أبحاثه إلى جهود الألمان، وروبرت كان وفنت سرف اعترفا بفضل بوزان. ولكن ما اشتهر أن دول كان أول من أثبت ضرر التدخين على الصحة وأن سيرف هو أبو الإنترنت. والناس يتذكرون ما اشتهر وشاع حتى وإن كان جزئا من الحقيقة لا الحقيقة كلها.
ولذلك يتوجب علينا أن نعي أن التبعية لثقافة بعينها تؤدي إلى أن ما يصلنا عن العلم وعن مصادره يمر بفلتر تلك الثقافة التي نتبعها، مما يعيق تقدم العلم لدينا. وإلا فكيف نفسر منح ريتشارد دول جائزة توصف بالعالمية دون التحقق من مسألة أول من أثبت علاقة التدخين بأمراض خطيرة كالسرطان، وذلك بالرغم من توفر المعلومة التي غابت عن اللجنة المانحة للجائزة باللغة الإنجليزية التي كثيرا ما ندور في فلك الثقافة الحاملة لها (راجع كتاب روبرت بروكتر عن محاربة التدخين في ألمانيا النازية والذي صدر عام ١٩٩٩، أي قبل ستة أعوام من منح دول الجائزة).
٣- إذا سألت أي مثقف عن أول من تحدث عن صراع الحضارات لقال لك أنه صامويل هنتنجتون، وهذا هو السائد والشائع في العالم وحتى بين العرب بالرغم أن المفكر المغربي المهدي المنجرة كان أول من تحدث عن الموضوع في كتابه الحرب الحضارية الأولى، وبالرغم أن هنتنجتون ذكر في كتابه كتاب المنجرة عن صراع الحضارات. فهل يجب للمعرفة أن تكتب في هارفارد حتى تصبح ذات قيمة؟
والقضية هنا لست سباقا أو لهثا وراء شرف أو لقب من قبيل أننا أول من اخترع كذا وكذا، ولكن كتاب المنجرة يختلف من حيث الطرح عن كتاب هنتنجتون، فلكل منهجه في معالجة الموضوع. فالمنجرة يركز على أهمية الحوار في الحد من صراع الحضارات، بينما يرى هنتنجتون أن الثقافات الغير غربية سوف تكون مصدر صراع الحضارات. فلماذا ندور في فلك من يرى أننا أحد الأسباب الرئيسية لصراع لا مفر منه ولا نلقي بالا لكتاب المنجرة الذي يقدم أطروحات مختلفة؟
وفي الختام فإنه ينبغي أن نعلم أن التبعية للغرب أو لجزء منه كأمريكا تعيق نهضتنا العلمية وتحجب أبصارنا عن علوم الثقافات الأخرى وحتى عن علومنا كما رأينا في حالة المنجرة. والسبب في هذا ليس فقط الاستعمار الفكري الذي يمارسه ضدنا الغير، وإنما أيضا تبجيلنا للآخرين وانقيادنا لهم، وهو ما سماه مالك بن نبي في كتابه شروط النهضة القابلية للاستعمار. فالداء فينا قبل أن يكون في الغير، فهل نعي ذلك؟
والحق يقال أن الرجلين قاما بالعديد من الأبحاث عن الآثار السلبية للتدخين على الصحة، ولكنهما لم يكونا أول من أثبت أن للتدخين ضررا على الصحة، إذ أن الأطباء الألمان أثبتوا في العهد النازي العلاقة بين التدخين وأمراض كالسرطان وغيره. بينما لم يبدأ ريتشارد دول أبحاثه إلا مع بداية الخمسينات.
٢- إذا سألت أي شخص عن نشأة الإنترنت فإنه سوف يخبرك أنه نشأ في أمريكا. وهذا صحيح، ولكن ما لا يعرفه يعرفه الكثيرون، حتى بعض المتخصصين في علوم الحاسوب، أن الصيغ الأساسية، أو البرتوكولات، التي بني على أساسها الإنترنت بشكله الحالي صممت في فرنسا تحت قيادة عالم يسمى لويس بوزان. وقد تلقف هذه الصيغ عالمان أمريكيان وهما روبرت كان وفنت سرف وطوراها حتى نشأ الإنترنت وأصبح فنت سيرف يعرف بأبي الإنترنت. أما بوزان فأصبح إسما قلما يسمع به حتى طلاب علوم الحاسوب. وإذا راجعت موسوعة ويكيبيديا فإنك تجد السيرة الذاتية لسيرف متوفرة في أربع وعشرين لغة، بينما سيرة بوزان متوفرة في ثلاث لغات فقط.
ولست هنا بصدد أن أبخس الأمريكان أو البريطانيين حقهم أو أن أدافع عن الألمان أو الفرنسيين، ولكني أريد أن أنبه إلى أن التبعية للثقافة الأنجلوساكسونية تجعلنا ندور في فلكها حتى لا نرى العالم إلى بعيون أنجلوأمريكية. ولست هنا أتهم الأمريكان أو البريطانيين بالسطو على أعمال غيرهم، فالدكتور دول أشار في أبحاثه إلى جهود الألمان، وروبرت كان وفنت سرف اعترفا بفضل بوزان. ولكن ما اشتهر أن دول كان أول من أثبت ضرر التدخين على الصحة وأن سيرف هو أبو الإنترنت. والناس يتذكرون ما اشتهر وشاع حتى وإن كان جزئا من الحقيقة لا الحقيقة كلها.
ولذلك يتوجب علينا أن نعي أن التبعية لثقافة بعينها تؤدي إلى أن ما يصلنا عن العلم وعن مصادره يمر بفلتر تلك الثقافة التي نتبعها، مما يعيق تقدم العلم لدينا. وإلا فكيف نفسر منح ريتشارد دول جائزة توصف بالعالمية دون التحقق من مسألة أول من أثبت علاقة التدخين بأمراض خطيرة كالسرطان، وذلك بالرغم من توفر المعلومة التي غابت عن اللجنة المانحة للجائزة باللغة الإنجليزية التي كثيرا ما ندور في فلك الثقافة الحاملة لها (راجع كتاب روبرت بروكتر عن محاربة التدخين في ألمانيا النازية والذي صدر عام ١٩٩٩، أي قبل ستة أعوام من منح دول الجائزة).
٣- إذا سألت أي مثقف عن أول من تحدث عن صراع الحضارات لقال لك أنه صامويل هنتنجتون، وهذا هو السائد والشائع في العالم وحتى بين العرب بالرغم أن المفكر المغربي المهدي المنجرة كان أول من تحدث عن الموضوع في كتابه الحرب الحضارية الأولى، وبالرغم أن هنتنجتون ذكر في كتابه كتاب المنجرة عن صراع الحضارات. فهل يجب للمعرفة أن تكتب في هارفارد حتى تصبح ذات قيمة؟
والقضية هنا لست سباقا أو لهثا وراء شرف أو لقب من قبيل أننا أول من اخترع كذا وكذا، ولكن كتاب المنجرة يختلف من حيث الطرح عن كتاب هنتنجتون، فلكل منهجه في معالجة الموضوع. فالمنجرة يركز على أهمية الحوار في الحد من صراع الحضارات، بينما يرى هنتنجتون أن الثقافات الغير غربية سوف تكون مصدر صراع الحضارات. فلماذا ندور في فلك من يرى أننا أحد الأسباب الرئيسية لصراع لا مفر منه ولا نلقي بالا لكتاب المنجرة الذي يقدم أطروحات مختلفة؟
وفي الختام فإنه ينبغي أن نعلم أن التبعية للغرب أو لجزء منه كأمريكا تعيق نهضتنا العلمية وتحجب أبصارنا عن علوم الثقافات الأخرى وحتى عن علومنا كما رأينا في حالة المنجرة. والسبب في هذا ليس فقط الاستعمار الفكري الذي يمارسه ضدنا الغير، وإنما أيضا تبجيلنا للآخرين وانقيادنا لهم، وهو ما سماه مالك بن نبي في كتابه شروط النهضة القابلية للاستعمار. فالداء فينا قبل أن يكون في الغير، فهل نعي ذلك؟
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق