"الفرنسية غنيمة حرب"، هكذا وصف الكاتب الجزائري الراحل كاتب ياسين اللغة الفرنسية التي كانت أحد أدوات احتلال الأراضي والعقول، وهكذا ينظر إليها وإلى غيرها من اللغات الأجنبية الكثيرون منا في عصرنا هذا. ويمكن إرجاع هذه النظرة إلى الآراء التي ما انفكت تردد أن التمكن من لغات الأمم المتطورة أحد أهم مفاتيح التقدم بالنسبة لعالمنا العربي، وذلك لأن تلك اللغات بوابتنا نحو التعرف على أحدث ما وصلت إليه دول العالم المتقدمة من اختراعات وإبداعات. وهذا هو الوجه الحسن لمعرفة تلك اللغات. ولكن هل فكرت عزيزي القاريء فيما إذا كان هناك جانب سلبي لإعطاء تلك اللغات ذاك القدر الهائل من الأهمية كما يحدث في العديد من الدول العربية. إذا نظرنا حولنا فسنجد أن التمكين للغات الأجنبية في بلادنا يحد بشكل كبير من الإبداع المحلي، وذلك من جوانب ثلاث على الأقل:
١- الجانب اللغوي: يؤدي فرض اللغات الأجنبية في مجتمعاتنا إلى جعل اللغة العربية لغة كسيحة لا تتطور بالسرعة الكافية ولا بالكفاءة المطلوبة. وهذا كما يعرف الجميع لا يحدث بسب فقر اللغة العربية، بل بسبب إقصائها عن العديد من القطاعات الحيوية في أغلب بلداننا. ونتيجة لهذا الإقصاء تظل المعاجم التي تصدرها مجامع اللغة العربية حبيسة الرفوف لا تجد من يستخدمها، كما تبقى المقررات الجامعية التي تصدر باللغة العربية ضعيفة الانتشار بسبب رفض أغلب الكليات العلمية التدريس باللغة العربية، وكثيرا ما يؤدي هذا إلى حبس اللغة العربية داخل حلبة العلوم الدينية والأدبية وتكريس فكرة أنها لا يمكن أن تصبح لغة للعلوم الدقيقة. وباختصار فإن لغة لا تستخدم لا تتطور.
أضف إلى ذلك أن الحضور الطاغي للغات الأجنبية يشوش على السليقة اللغوية لأبناء العربية مما يتسبب في ظهور ترجمات غربية لمصطلحات ومفاهيم لا يفهمها إلا المتبحر في اللغة الأجنبية المنقولة منها تلك المصطلحات والمفاهيم، بالإضافة إلى ترجمات لا تتناسب مع نسق اللغة العربية وثقافة متحدثيها (راجع دراسات الدكتور علي درويش للاستزادة).
٢- الجانب الاقتصادي: إن من آثار تهميش اللغة العربية في مجتمعاتنا وإعطاء الأولوية للغات الأجنبية أننا نجد أن هناك العديد من الوظائف التي يشترط على المتقدمين إليها أن يتقنوا لغة أجنبية كالإنجليزية أو الفرنسية. ويؤدي هذا إلى حصر فرصة الحصول على وظيفة جيدة بمن يتحدثون لغة أجنبية وهم أقلية، واستبعاد من لا يتحدثون سوى العربية وهم الأغلبية. وبذلك تقل فرص الاستفادة من المبدعين لأن الشركات تختار موظفين من عدد محدود بدلا من فتح المجال أمام عدد أكبر.
وقد يقول قائل أن هناك وظائف يحتاج الموظف فيها إلى لغة أجنبية بالفعل، وهذا صحيح. ولكننا إذا أمعنا النظر في سوق العمل لوجدنا أن الوظائف التي تتطلب حقا إتقان لغة أجنبية قليلة، أما باق الوظائف فيمكن إنجازها باللغة العربية دون غيرها شريطة أن يتم فرض لغتنا في جميع مناحي الحياة، فثمة فرق هائل بين الحاجات الضرورية والاحتياجات المصطنعة.
وأحيانا يصل الشطط والتنطع بالبعض إلى اشتراط لغة أجنبية كالإنجليزية دون وجود أدنى حاجة إليها. ومثال ذلك ما ذكرت في مقال سابق عن إحدى الجامعات السعودية التي اشترطت على المتقدمين لشغل وظائف تدريس اللغة العربية والعلوم الشرعية إجادة اللغة الإنجليزية. والأدهى من ذلك أن إحدى المستشفيات السعودية طلبت ذات الشيء ممن يودون التقدم لشغل وظيفة صياد عقارب وأفاع.
٣- الجانب الاجتماعي: إذا ألقينا نظرة سريعة على عالمنا العربي لوجدنا أن المتأمركين والمتفرنسين فيه عادة ما ينتمون إلى الطبقة الميسورة، إذ أن تلك الطبقة هي من تقوى على تحمل التكاليف الباهظة لنمط الحياة الغربي من تعليم في مدارس وجامعات أجنبية ورحلات إلى الخارج. ونمط حياة كهذا يؤدي إلى انعزال تلك الطبقة، وهي أقلية ذات قوة اقتصادية وفكرية وإعلامية، عن السواد الأعظم من الشعب، مما يؤدي إلى جعل إبداعات تلك الأقلية تدور في فلك الثقافات التي تبنتها وتبنت لغاتها، ومما يصعب بدوره على المجتمع الاستفادة من تلك الإبداعات. أما الأغلبية التي تصارع من أجل كسب لقمة العيش فإن إبداعاتها، إن وجدت، لا تلقى من يتبناها من قبل أفراد النخبة الذين يعيشون بأجسادهم في العالم العربي وبعقولهم وقلوبهم في أوروبا أو أمريكا. وهنا يكون الاستعمار اللغوي في أوجه.
ولا أزعم هنا أم كل أفراد النخبة لدينا متغربون، إذ يوجد الكثيرون من صفوة المجتمع من هم مغرسون جسدا وعقلا وفؤادا في الوطن العربي، ولكنهم مع الأسف محاربون من قبل النخب المتأمركة أو المتفرنسة التي تجيد فن الاستقواء بالخارج.
إن على العاقل أن يعمل عقله ويطرح السؤال التالي: إذا كان نفع اللغات والثقافات الغربية أكبر من ضررهما، فلماذا يحاول الغرب الذي بيننا وبينه الكثير من العداء نشر لغاته وثقافاته في أراضينا؟ هل يحرص الغرب إلى هذه الدرجة على إفادتنا؟ أم على السيطرة علينا؟ ليس لدي جواب شاف على هذه السؤال، ولكني أعتقد أن الانفتاح بلا رقيب في زمن الضعف يؤدي إلى كوارث أشد خطرا من عواقب الانغلاق.
قبل أن أنهي هذا المقال أحيل الحديث إلى الشاعر الكويتي حمود البغيلي الذي يوجه صرخة تحذيرية لدعاة الانفتاح من خلال أبيات يقول فيها:
عجيب أمر أمتنا عجيب ... تروضنا ليركبنا الغريب
وتحرقنا كعود المسك قهرا ... ليخرج منه للأغراب طيب
فقل للطالبين اليوم علما ... من السفهاء: ويحكموا أجيبوا
متى كان السفيه يدر علما ... ليلقفه على شغفٍ أديب
اذا لصق القراد بضرع شاة ... فلا يرجى من الشاة الحليب
١- الجانب اللغوي: يؤدي فرض اللغات الأجنبية في مجتمعاتنا إلى جعل اللغة العربية لغة كسيحة لا تتطور بالسرعة الكافية ولا بالكفاءة المطلوبة. وهذا كما يعرف الجميع لا يحدث بسب فقر اللغة العربية، بل بسبب إقصائها عن العديد من القطاعات الحيوية في أغلب بلداننا. ونتيجة لهذا الإقصاء تظل المعاجم التي تصدرها مجامع اللغة العربية حبيسة الرفوف لا تجد من يستخدمها، كما تبقى المقررات الجامعية التي تصدر باللغة العربية ضعيفة الانتشار بسبب رفض أغلب الكليات العلمية التدريس باللغة العربية، وكثيرا ما يؤدي هذا إلى حبس اللغة العربية داخل حلبة العلوم الدينية والأدبية وتكريس فكرة أنها لا يمكن أن تصبح لغة للعلوم الدقيقة. وباختصار فإن لغة لا تستخدم لا تتطور.
أضف إلى ذلك أن الحضور الطاغي للغات الأجنبية يشوش على السليقة اللغوية لأبناء العربية مما يتسبب في ظهور ترجمات غربية لمصطلحات ومفاهيم لا يفهمها إلا المتبحر في اللغة الأجنبية المنقولة منها تلك المصطلحات والمفاهيم، بالإضافة إلى ترجمات لا تتناسب مع نسق اللغة العربية وثقافة متحدثيها (راجع دراسات الدكتور علي درويش للاستزادة).
٢- الجانب الاقتصادي: إن من آثار تهميش اللغة العربية في مجتمعاتنا وإعطاء الأولوية للغات الأجنبية أننا نجد أن هناك العديد من الوظائف التي يشترط على المتقدمين إليها أن يتقنوا لغة أجنبية كالإنجليزية أو الفرنسية. ويؤدي هذا إلى حصر فرصة الحصول على وظيفة جيدة بمن يتحدثون لغة أجنبية وهم أقلية، واستبعاد من لا يتحدثون سوى العربية وهم الأغلبية. وبذلك تقل فرص الاستفادة من المبدعين لأن الشركات تختار موظفين من عدد محدود بدلا من فتح المجال أمام عدد أكبر.
وقد يقول قائل أن هناك وظائف يحتاج الموظف فيها إلى لغة أجنبية بالفعل، وهذا صحيح. ولكننا إذا أمعنا النظر في سوق العمل لوجدنا أن الوظائف التي تتطلب حقا إتقان لغة أجنبية قليلة، أما باق الوظائف فيمكن إنجازها باللغة العربية دون غيرها شريطة أن يتم فرض لغتنا في جميع مناحي الحياة، فثمة فرق هائل بين الحاجات الضرورية والاحتياجات المصطنعة.
وأحيانا يصل الشطط والتنطع بالبعض إلى اشتراط لغة أجنبية كالإنجليزية دون وجود أدنى حاجة إليها. ومثال ذلك ما ذكرت في مقال سابق عن إحدى الجامعات السعودية التي اشترطت على المتقدمين لشغل وظائف تدريس اللغة العربية والعلوم الشرعية إجادة اللغة الإنجليزية. والأدهى من ذلك أن إحدى المستشفيات السعودية طلبت ذات الشيء ممن يودون التقدم لشغل وظيفة صياد عقارب وأفاع.
٣- الجانب الاجتماعي: إذا ألقينا نظرة سريعة على عالمنا العربي لوجدنا أن المتأمركين والمتفرنسين فيه عادة ما ينتمون إلى الطبقة الميسورة، إذ أن تلك الطبقة هي من تقوى على تحمل التكاليف الباهظة لنمط الحياة الغربي من تعليم في مدارس وجامعات أجنبية ورحلات إلى الخارج. ونمط حياة كهذا يؤدي إلى انعزال تلك الطبقة، وهي أقلية ذات قوة اقتصادية وفكرية وإعلامية، عن السواد الأعظم من الشعب، مما يؤدي إلى جعل إبداعات تلك الأقلية تدور في فلك الثقافات التي تبنتها وتبنت لغاتها، ومما يصعب بدوره على المجتمع الاستفادة من تلك الإبداعات. أما الأغلبية التي تصارع من أجل كسب لقمة العيش فإن إبداعاتها، إن وجدت، لا تلقى من يتبناها من قبل أفراد النخبة الذين يعيشون بأجسادهم في العالم العربي وبعقولهم وقلوبهم في أوروبا أو أمريكا. وهنا يكون الاستعمار اللغوي في أوجه.
ولا أزعم هنا أم كل أفراد النخبة لدينا متغربون، إذ يوجد الكثيرون من صفوة المجتمع من هم مغرسون جسدا وعقلا وفؤادا في الوطن العربي، ولكنهم مع الأسف محاربون من قبل النخب المتأمركة أو المتفرنسة التي تجيد فن الاستقواء بالخارج.
إن على العاقل أن يعمل عقله ويطرح السؤال التالي: إذا كان نفع اللغات والثقافات الغربية أكبر من ضررهما، فلماذا يحاول الغرب الذي بيننا وبينه الكثير من العداء نشر لغاته وثقافاته في أراضينا؟ هل يحرص الغرب إلى هذه الدرجة على إفادتنا؟ أم على السيطرة علينا؟ ليس لدي جواب شاف على هذه السؤال، ولكني أعتقد أن الانفتاح بلا رقيب في زمن الضعف يؤدي إلى كوارث أشد خطرا من عواقب الانغلاق.
قبل أن أنهي هذا المقال أحيل الحديث إلى الشاعر الكويتي حمود البغيلي الذي يوجه صرخة تحذيرية لدعاة الانفتاح من خلال أبيات يقول فيها:
عجيب أمر أمتنا عجيب ... تروضنا ليركبنا الغريب
وتحرقنا كعود المسك قهرا ... ليخرج منه للأغراب طيب
فقل للطالبين اليوم علما ... من السفهاء: ويحكموا أجيبوا
متى كان السفيه يدر علما ... ليلقفه على شغفٍ أديب
اذا لصق القراد بضرع شاة ... فلا يرجى من الشاة الحليب